شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

خدماتنا

الاستشارات
ادارة الأوقاف
صناديق العائلة
اثبات الأوقاف
الأحد 1 جمادى الأولى 1446 / 3-11-2024

جناية الأنظمة على الأوقاف

008.jpg

008.jpg

 

الأحد 15 صفر 1436هـ 7 ديسمبر 2014م

يحتم العنوان أعلاه أن تكون بداية هذا المقال مباشرةً بما يقتضيه مضمونه، وفي البداية فإن من المهم التنبيه إلى أن الأوقاف في الغرب تعززت تحت حكم النظم العلمانية الغربية، لكنها على العكس من ذلك في ظل النظم العربية العلمانية والإسلامية على حد سواء، كما أن مما يستوجب التنبيه إليه أهمية موقع الوقف في التشريعات الإسلامية التي تنصُّ على كونها مستقلة عن الحاكم والحكومة -أياً كانت تلك الحكومة- مرتبطة بشكلٍ مباشر بشرط الواقف الصحيح الذي هو مثل حكم الشارع، وبمرجعية القضاء الشرعي على تلك الأوقاف، وهذه الأمور الثلاثة من أُسس بقاء المؤسسة الوقفية وقوتها.

وبهذه الأُسس فإن الأوقاف عبر تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة كانت مصدراً من أقوى مصادر الحضارة الإسلامية في تأسيسها وتنميتها وتطويرها لتحقيق متطلبات المجتمع المسلم من التنمية الشاملة المستدامة إلى معالجة للطوارئ والأزمات التي مرّت بها الأمة الإسلامية عبر تاريخها، بل إن الأوقاف بقيت رصيداً لبقاء الأمة الإسلامية وصمودها وعودة نفوذ دولها مرة أخرى، بالرغم من سقوط بعض الحكومات عبر التاريخ أو ضعفها.

كتب الشيخ صالح الحصين رحمه الله عن فاعلية الوقف في حياة المسلمين وصمام الأمان لبقاء الأوقاف واستقلاليتها وقوتها، فقال: “وبالرغم من تدهور الدولة الإسلامية فقد بقيت الحضارة الإسلامية راسخة تزدهر وتنمو، وكان ذلك بفضل الله على المسلمين، ثم بفضل نظام الوقف.

فبالأوقاف التي ظل الواجدون من المسلمين يتفنّنون في تنفيذها، لم تتأثر الحضارة الإسلامية ولا المجتمعات المسلمة بقيام الدول أو سقوطها، بل استطاعت أن تقاوم الغزو الخارجي الطاغي حينما تعرّضت لاجتياح الصليبيين والتتار، وظلت مقاومة الحضارة الإسلامية لهذا الاجتياح مثلاً نادراً في تاريخ البشرية.

لقد ساعد على فاعلية نظام الوقف في حياة المسلمين، المبادئ التي قام عليها، وأهمها:

1- امتناع التصرُّف في أصل الوقف، وقد تحقق بهذا المبدأ حماية الوقف وعدم تعريضه لطيش المتولين عليه أو سوء نيتهم.

2- ما استقر لدى الفقهاء من أن شرط الواقف الصحيح مثل حكم الشارع، فتحققت بذلك حماية الوقف واطمئنان الواقف إلى استمرار صرف وقفه في الأغراض التي تَهُمّه ويُعنى بها.

3- ولاية القضاء على الأوقاف، فتحققت بذلك حماية الوقف من تدخل السلطات الإدارية الحكومية.

أثبت التاريخ أن أي إخلال بمبدأ من هذه المبادئ كان مسماراً يدق في نعش الوقف” (انظر ورقة علمية بعنوان تطبيقات الوقف بين الأمس واليوم؛ للشيخ صالح الحصين، على الرابط التالي):

http://rowaq.org/?p =19

ويمكن حوكمة وزارات الأوقاف في العالم العربي ونظمها بمقدار قربها وبعدها في تطبيق هذه المبادئ والالتزام بها لمعرفة حجم جناية الأنظمة على الأوقاف.

يقول بروكلمان في معرض حديثه عن الأوقاف وعن الحضارة الإسلامية وفضلها على حضارة الغرب: “أما في حقول الثقافة الأخرى فقد أنتج السوريون والمصريون إنتاجاً خصباً جداً في عهد المماليك كان لنا -يعني الأوروبيين- فيه ثمرات يانعات، وبخاصة في حقل التاريخ” (انظر: كارل بروكلمان؛ تاريخ الشعوب الإسلامية، ص: [369-371]).

وقد ضعفت الحضارة الإسلامية وما فيها من إبداعات متنوعة عند المسلمين إبان غزو العالم الإسلامي واحتلاله وما صحب ذلك من مصادرة للأوقاف أو إضعاف لدورها وأثرها، وتلا تلك الفترة التاريخية حكومات علمانية أو حكومات بيروقراطية استولت على الأوقاف تحت مسميات التنظيم والتطوير، والمأسسة والترسيم.

يؤكد الحصين أن الأوقاف رقم صعب لدى المستعمر (المحتل) الأجنبي، فيقول عن سياستهم تجاه الأوقاف: “فحينما استولت الدول الاستعمارية على بلاد المسلمين في القرنين الماضيين -الثالث عشر والرابع عشر الهجريين-، وكانت تدرك أن الصراع السياسي يعتمد في حسمه على نتيجة الصراع الثقافي والحضاري؛ كان همّ الاستعمار الأول القضاء على الحضارة الإسلامية أو إضعافها إلى أقصى درجة ممكنة، ولما كان الوقف هو سند الحضارة الإسلامية وأساس قوتها، كان من الطبيعي أن يتوجه المستعمر إلى إضعاف نظام الوقف أو القضاء عليه، وكانت وسيلته في ذلك إدخاله في مجال التنظيم الإداري الحكومي تمهيداً لوضعه تحت سلطة الإدارة وسيطرتها، وحققت هذه السياسة نتائجها فقُضي على نظام الوقف تقريباً في العالم الإسلامي أو شلت فعاليته، واستمرت هذه السياسة المشؤومة في بلدان العالم الإسلامي حتى بعد زوال الاستعمار.

انتهى الأمر في بلادٍ كمصر العربية إلى صدور نظام يقضي بتحويل الأوقاف في جمهورية مصر العربية إلى مؤسسة عامة (وزارة) تشمل سلطتها كل الأوقاف في الجمهورية، عدا الأوقاف التابعة لهيئة أوقاف الأقباط، وعدا الوقف الذي يوقفه صاحبه ويجعل النظارة له، وذلك مدة حياته، وعندما يموت يعود إلى المؤسسة العامة.

واضح أن النتيجة العملية لهذا النظام وهي خضوعه لكل مساوئ البيروقراطية، والعجز الإداري، وأسوأ من هذا كله قيام رادع فعال يمنع أهل الخير من النشاط للوقف ما داموا يعرفون أنه سيؤول إلى الإدارة الحكومية التي إن وثقوا بأمانتها فإنهم لا يثقون بكفايتها.

إن من المُحزِن أن تسمع بين الآونة والأخرى حتى من إخواننا الطيبين في بلادنا الطيبة الدعوة إلى التنظيم الحكومي للأوقاف، غافلين عن الآثار المميتة لهذا الإجراء، وغير معتبرين بدروس التاريخ وسنن الحياة وتجارب غيرنا” (انظر ورقة علمية بعنوان: تطبيقات الوقف بين الأمس واليوم؛ للشيخ صالح الحصين، على الرابط التالي):

http://rowaq.org/?p=19

وبهذا يتبيَّن لنا مخاطر الأفكار العلمانية أو الأفكار الإدارية الخاطئة التي تتعامل مع الأوقاف بما يحجب ثمراتها، ويمنع خيراتها، بل يحجب المحسنين عن إيقاف أموالهم، ومن أبرز ذلك: تحول إدارة الأوقاف من أهلية إلى إدارات حكومية رسمية، وفي ذلك جناية بحق الأوقاف.

ويلفت الحصين -في الورقة العلمية سابقة الذكر- النظر إلى تعمُّد الإدارات الحكومية عدم تطبيق نظم الخصخصة رغم شمول غيرها بالخصخصة، قائلاً: “إن من المفارقات العجيبة أنه في هذا العصر الذي كشف عن خطأ سياسة التأميم، واتجه بكل قوة إلى الدعوة لتخصيص المشاريع، مع ما هو واضح من تأثير التخصيص على العدالة الاجتماعية ومتطلباتها؛ نرى من أبناء وطننا من أهل الخير والصلاح والعلم، ومن العاملين للإسلام الحاملين همَّه؛ من يدعو أو يُحبِّذ أو يؤيد السعي لتأميم الأوقاف، وإخضاعها لسيطرة الموظف العام، مع أن نظام الوقف كان في الإسلام وطوال تاريخه من أعظم وسائل العدل الاجتماعي” (انظر ورقة علمية بعنوان: تطبيقات الوقف بين الأمس واليوم؛ للشيخ صالح الحصين، على الرابط التالي):

http://rowaq.org/?p=19

نماذج من تاريخ استقلال الأوقاف:

تُعدُّ الأوقاف حسب التشريعات الإسلامية هيئات مستقلة عن الحكومات ونظُمها، حيث الناظر هو المعني بالأوقاف، سواءً كان فرداً أو مجموعة، وقد تحقق هذا الاستقلال على أرض الواقع عبر تاريخ الأمة الإسلامية، ولذلك كان أثر هذا الاستقلال على بقاء الحضارة الإسلامية ودورها في قوة الأمة المسلمة، ومن متطلبات الرصد التاريخي في هذا المقال الإشارة إلى تحول الأوقاف من مؤسسة مستقلة عن الحكومة إلى مؤسسات حكومية وما صحب ذلك من جناية كبيرة بحق الأوقاف والموقفين من قبل الإدارات العلمانية أو المتأثرين بها، وأثر تلك الجناية على استقلال الأمة الإسلامية، بل وعلى نهاية حضارتها.

وسأكتفي في هذا المقام إلى حد كبير باقتباسات ثرية عن هذا الموضوع من مقالة متخصصة بالأوقاف واستقلاليتها للمفكر الإسلامي والباحث “محمد عمارة”، والتي أكَّد فيها حق الأمة في الأوقاف وعدم أحقية (الحكومات) فيها، وقد عبَّر عن مصطلح (الحكومة) بالدولة فقال: “ظلت هذه المؤسسة (الأوقاف)، على مرّ تاريخنا، إحدى أهم مؤسسات (الأمة) التي رجِحت كفتها في مواجهة (الدولة)، والتي أعانتها على صناعة الحضارة، على الرغم مما أصاب (الدولة) من انحراف.

– ففي الدولة الأموية وعلى عهد هشام بن عبد الملك (71-125هـ / 690-743م)، قام أول ديوان للأحباس (الأوقاف) وكان مستقلاً عن دواوين الدولة يشرف عليه القاضي النائب عن الأمة.

– وفي العصر العباسي، مع اتساع نطاق الأوقاف، كان يتولى ديوانها من يُطلق عليه (صدر الوقوف)، وظل هذا الديوان مؤسسة أهلية مستقلة عن الدواوين السلطانية.

وكان العلماء على امتداد هذا التاريخ هم الحراس على قيام هذه المؤسسة بدورها في تمويل إقامة الدين وصناعة الحضارة.. وعلى بقائها مؤسسة (الأمة) المستقلة عن (الدولة) ودواوينها.

وحتى عندما كان الواقفون للأموال والثروات خلفاء وأمراء وسلاطين دولة؛ فإن إمضاء حجة الوقف كان يعني انتقال هذه الأموال والثروات إلى مؤسسات (الأمة) المملوكة للمالك الحقيقي لهذه الأوقاف باباً دائماً لتصحيح الخلل الذي كانت تحدثه المظالم والمصادرات في العلاقة ما بين (الأمة) والدولة عبر تاريخ الإسلام” (انظر محمد عمارة؛ دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة، بحث مقدَّم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت؛ ص: [165-166]).

وعن أهمية الأوقاف للجيوش والمجاهدين كتب عمارة فقال: “وفي العصر المملوكي وأمام اشتداد الخطر الخارجي -الصليبي والتتري-؛ تحوّلت الأرض إلى إقطاع حربي انتزعتها (الدولة) المملوكية لأجنادها لقاء الدفاع عنها ضد الغزاة”.

“وفي ذلك العصر كانت الأوقاف، التي بدأ الأمراء والسلاطين يقتطعونها من الدولة ويحبسونها على جهات البِرّ… كانت هذه الأوقاف الباب الذي أعاد التوازن بين (الأمة) و(الدولة) في هذا الميدان. حتى لقد بلغت هذه الأوقاف العامة نصف أراضي الدولة على عهد السلطان الظاهر برقوق (738-801هـ / 1338-1398م)” (محمد عمارة؛ دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة، بحث مقدَّم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت؛ ص: [166]).

وقد كتب المؤرخ الألماني بروكلمان عن هذه الاستقلالية للأوقاف ودورها وأثرها في نشوء الحضارة وبقائها، بل ودوافع المسلمين للمبادرة بالأوقاف؛ فقال: “هذا الإنتاج (العلمي) الواسع العريض في عصر المماليك كان يجد سنده الاقتصادي في نظام الأوقاف الذي أُنشئَ في عهد العباسيين، والذي انتهى في مصر وسورية إلى غاية من الغنى تكاد تكون خيالية، ذلك بأن كبار المثرين السوريين والمصريين، كانوا كزملائهم العراقيين من قبل، يقفون (يوقِفون) ممتلكاتهم الضخمة على وجوه البِرّ وخدمة العلم، صيانة لها من المصادرة” (انظر: كارل بروكلمان؛ تاريخ الشعوب الإسلامية، ص: [369-371]).

وأقول معلقاً على ما سبق من قول بروكلمان:

نعم كان المسلمون يوقفون أموالهم خوفاً عليها من المصادرة، لكن واقعهم اليوم لا يوقفون خوفاً عليها من المصادرة القائمة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

استطرد عمارة عن دور العلماء في التصدي لإرادة بعض السلاطين والخلفاء ومحاولاتهم إنقاص الأوقاف، فقال: “ولما حاول السلطان -الظاهر برقوق- إنقاص هذه الأوقاف، وعقد لذلك مجلس شورى، تصدى له العلماء وفي مقدمتهم الشيخ أكمل الدين (710-786هـ / 1310-1384م)، والشيخ سراج الدين البلقيني (724-805هـ / 1324-1403م)، والشيخ البرهان ابن جماعة (725-790هـ / 1325-1388م)؛ قائلين: إن ما رصده الملوك والأمراء للأوقاف يخرج من بيت المال، ولا سبيل إلى نقضه” (انظر محمد عمارة؛ دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة، بحث مقدّم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت؛ ص: [166-167]).

كما كتب عمارة عن تكرار المحاولة لإنقاص الأوقاف في العصر العثماني، فقال: “ولقد تكرّر هذا الموقف في العصر العثماني (1122هـ/1709م) عندما أراد الوالي العثماني على مصر -إبراهيم باشا القبودان- نقص الأوقاف المرصودة على جهات البِرّ والخير؛ فتصدى له علماء المذاهب الأربعة، مهدرين قراره؛ (لأنه لا تجب طاعته إلا إذا وافق أمره الشرع، فإن خالف أمره الشرع لم يُنفذ؛ بل تجب مخالفته)! وقُرئت فتواهم في مؤتمر عام حضره الأكابر والحكام والعلماء… فلما عاند الوالي، رفعوا الأمر إلى السلطان أحمد خان (1115-1149هـ/ 1703-1736م) الذي أقرّ فتوى العلماء، فبقيت الأوقاف على ما هي عليه”.

“بل لقد اتخذ العلماء في مصر الموقف ذاته دفاعاً عن الأوقاف في مواجهة السلطان العثماني ذاته (1148هـ/ 1735م)، وفي مواجهة القاضي العثماني، الذي قال: “إن أمر السلطان لا يُخالف، وتجب طاعته”… وأفتوا بأن إبطال الأوقاف مخالف للشرع “ولا يُسلَّم للإمام في فعل ما يخالف الشرع”! بل وهدَّدوا بالثورة، فعندما كتبوا للسلطان قائلين: “إنه ربما قامت الرعية وهاجت واضطربت أحوالها وماجت؛ لأن قطع المعايش والأرزاق يفضي إلى قبيح الأفعال وسوء الأخلاق” (انظر محمد عمارة؛ دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة، بحث مقدَّم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت؛ ص: [166-167]).

وعن دور الأوقاف في استقلالية العلماء والقضاة كتب عمارة فقال: “والأمر الذي يجب التنبيه عليه… هو أن هؤلاء العلماء ما كان لهم أن يقودوا (الأمة) في مواجهة (الدولة) لو لم تضمن لهم مؤسسة الأوقاف الاستقلال المالي عن هيمنة الدولة ونفوذها. فالأوقاف -التي موَّلت صناعة الحضارة الإسلامية- هي التي جعلت للأمة وعلمائها هذا السلطان الذي تصدوا به للدولة وسلاطينها.

بهذا صنعت (الأمة) حضارتها حتى في ظل انحراف الدولة؛ لأن رجحان كفة الأمة والاستقلال المالي الذي حققته الأوقاف لملحمة صنع الحضارة الإسلامية، هو الذي جعل الأمة تواجه توازن (السلاطين الأمراء) بسلاطين العلماء والعارفين وشيوخ وحجج الإسلام” (انظر محمد عمارة؛ دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة، بحث مقدَّم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت؛ ص: [167]).

كارثة ترسيم الأوقاف في العصر الحديث:

كثيراً ما تكون شعارات التجديد والتحديث والتنظيم وسائل تقييد أو تأميم أو ترسيم، خاصة ما جرى ويجري تجاه الأوقاف الإسلامية في العالم العربي؛ كَتَبَ عمارة عن هذا الموضوع فقال: “كان مشروع محمد علي باشا (1184-1265هـ/ 1770-1849م) في مصر مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، مشروعاً لتجديد شباب الدولة العثمانية، كي لا يسقط في شراك الاحتواء الغربي، الذي كان يحرس أمراضها حتى تحين ساعات وراثتها بعد تقطيع أوصالها.

لكن هذا التجديد قد سلك سبيل الاعتماد على الدولة بدلاً من الأمة، فاحتذى في تجديد شباب الدولة حذو الدولة الغربية الحديثة، واستعان بالخبراء الفرنسيين وخاصة أتباع سان سيمون (1675-1755م) في بناء الدولة الحديثة بمصر” (انظر محمد عمارة؛ دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة، بحث مقدَّم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت؛ ص: [167-168]، نقلاً عن د. محمد طلعت عيسى: “أتباع سان سيمون؛ فلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر”).

“فبعد أن كان علماء الشرع، ومعهم قادة تنظيمات وروابط ونقابات الحرف والصناعات، هم ممثلي الأمة وأولي أمرها، شرع محمد علي في إحلال الدولة محل هذه القيادات… وكان العدوان على الأوقاف -المؤسسة التمويلية الأم لقوة الأمة واستقلال قادتها- السبيل الذي بدأ به محمد علي لإحداث هذا الانقلاب.

فامتدت يد الدولة إلى أراضي الأوقاف، ففُرضت عليها الضرائب (1224هـ/1809م) بعد أن كانت معفاة منها… ثم أخذت فيما سمَّته مراجعة حجج الأوقاف وتجديدها، وأمهلت نظارها أربعين يوماً لتقديم الحجج الأصلية، وإلا ألغيت أوقافهم وخضعت لملكية الدولة، وكان الكثير من هذه الحجج قد بليت منذ زمن طويل، كما كانت أعيان كثير من الأوقاف قد أصابها التغيير بأحكام قضائية غير مدونة، وإنما بشهادات شهود قد توفاهم الله منذ عقود وعقود من السنين؛ فاستولت الدولة على كثير من أعيان الأوقاف.

ثم خطت الدولة على هذا الدرب أكثر جرأة، فاستولت على أراضي الأوقاف الخيرية في (1227هـ/1812م) وكانت مساحتها يومئذ 600.000 فدان، أي أزيد من خُمس الأراضي المصرية البالغة يومئذ 2. 500.000 فدان! وعندما احتجَّ العلماء على هذا بمخافة خراب المساجد، أعلن محمد علي أنه قد قرَّر إحلال الدولة محل الأمة ومؤسساتها الأهلية في الإنفاق على هذه المساجد، وقال للعلماء: “أنا أُعمِّر المساجد المتخربة وأرتِّب لها ما يكفيها”، فانفتح منذ ذلك التاريخ باب سيطرة الدولة على الفكر الديني، وبدأ الفقيه مثقف ذلك العصر يفقد الاستقلال الذي ضمنته له الأمة والذي مولته مؤسسة الأوقاف عبر تاريخ الإسلام” (انظر محمد عمارة؛ دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة، بحث مقدَّم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت؛ ص: [168-169]).

ورصد محمد عمارة الآثار المدمرة لهذا الترسيم والتأميم للأوقاف حتى على مستوى قوة الأمة في مقاومة الاحتلال، بل وذكر مقارنة تاريخية مهمة نقلها عن الإمام محمد عبده، فقال: “وبعد أن حلَّت (الدولة) محل (الأمة) في رعاية مفكريها ومثقفيها، أصبحت الدولة والوالي (ولي النِّعم) بالنسبة للمثقفين والمفكرين، لقد احتكرت الدولة صناعة الفكر والتحديث، ومن ثم أممت المثقفين والمفكرين.

ولقد رصد الإمام محمد عبده آثار هذه المتغيرات، والتي مثَّلت منعطفاً حاداً في العلاقة بين الدولة والأمة، كأعمق ما يكون الرصد، وحلَّل آثارها كأجود ما يكون التحليل، فأبان -فيما كتبه عن آثار محمد علي في مصر- كيف كان الرجل (تاجراً زارعاً، وجندياً باسلاً، ومستبداً ماهراً، لكنه كان لمصر قاهراً، ولحياتها الحقيقية معدماً)، ودلَّل على حقيقة تراجع (الأمة) لحساب (الدولة) بالمقارنة بين موقفين تاريخيين، فأمام الحملة الفرنسية التي قادها بونابرت (1769-1821م) على مصر (1213هـ/1798م)، لم تنهزم الأمة بانهزام الدولة؛ بل قاومت حتى فرَّ بونابرت قاهر أوروبا بليلٍ أمام مقاومتها! فلما أحدثت تجربة محمد علي ما أحدثت من تغييرات في العلاقة بين الأمة و(الدولة)… وجاء الجيش الإنجليزي ليحتل مصر (1299هـ/1882م)؛ كانت هزيمة (الدولة) هي نهاية المطاف، فلم تقاوم (الأمة)، كما صنعت من قبل، بقيادة العلماء والتجار وتنظيمات الحِرف والصناعات!

لقد تراجعت (الأمة) وفقدت قيادتها الشعبية دعم الأوقاف… المؤسسة الأم التي موَّلت صناعة الحضارة الإسلامية، والجهاد لحماية هذه الحضارة، على مرِّ تاريخ الإسلام، وبقيت الدولة (الحكومة) وحدها في مواجهة التحديات” (انظر محمد عمارة؛ دور الوقف في النمو الاجتماعي وتلبية حاجات الأمة، بحث مقدَّم في ندوة: نحو دور تنموي للوقف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت؛ ص: [169-170]، نقلاً عن: الأعمال الكاملة؛ ج1، ص: [728]).

هذا الواقع الذي حدث في مصر أحدث تحوُّلاً خطيراً في دول العالم العربي والإسلامي في سياسة التعاطي مع الأوقاف، حيث ارتبطت الأوقاف بالحكومة المصرية تحت مُسمَّيات التنظيم والتحديث والتجديد، وأصبحت الأوقاف مرتبطة بالحكومة أكثر من ارتباطها بالأمة وبالقضاء الشرعي، ما أسهم في إضعاف أبرز مصدر من مصادر الحضارة الإسلامية.

وقد سارت الحكومات المتعاقبة في مصر وغيرها على هذا المنوال تُحدِّث وتُطوِّر في نُظم الأوقاف الداخلية متجاهلة المرض الرئيس الذي تم تجذيره في ارتباط الأوقاف بالحكومة من خلال استحداث وزارات الأوقاف لتكون هي المعنية بالدرجة الأولى بشؤون الأوقاف والواقفين، لكن المصيبة تتعاظم حينما انتقلت فكرة ميلاد وزارة معنية بالأوقاف من مصر إلى سائر دول العالم العربي؛ اقتداءً بالتجربة الإدارية المصرية، وأخطر من وجود المرض عدم تشخيصه، فجميع المؤتمرات المعنية بالأوقاف -وهي متعددة وكثيرة- لا تتطرق في أوراق عملها إلى بحث المرض الرئيس والمشكلة الأساسية للوقف في العالم العربي، فمعظم مشكلات الأوقاف ناتجة عن ترسيم الأوقاف كإدارات أو وزارات أو هيئات حكومية بيروقراطية، وهذا ما لا يُتناول بالبحث والنقاش -مع الأسف- رغم وجوب حشد جميع الأوراق العلمية لمناقشة هذا المرض الرئيس لأهميته البالغة.

ووصل الأمر بمحاولات تطبيع الترسيم للأوقاف أن أصبح التسويق للأوقاف العلمية على الجامعات الحكومية بمزاعم الاقتداء بالجامعات الأمريكية ومؤسساتها المانحة، مثل: مؤسسة فورد، ومؤسسة روكفلر، ومؤسسة كارينجي، ومؤسسة كيلوك، ومؤسسة جونسون، ومؤسسة مارك آرثر، وجامعة هارفارد، وجامعة ديوك… وغيرها من الجامعات.

عِلماً أن هذا يتنافى مع واقع الجامعات الأمريكية، حيث سياسة الوقف والإيقاف في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، إنما هو على الجامعات (غير الحكومية) و(غير الربحية)؛ بهدف دعم هذا القطاع الثالث بمنظومته الكاملة في منافسته لجامعات القطاع العام والخاص، ودعم استقلاله العلمي والمعرفي واستقلال أوقافه، وبالتالي قوة أبحاثه ودراساته في خدمة الوطن -أي وطن-.

وأختم القول عن الجناية الإدارية بحق الأوقاف في بلادنا الإسلامية من خلال واقعها المعاصر الذي انعكس على عدم وجود مخرجات للأوقاف، حيث لا توجد لها مخرجات تنموية، بل ولا شراكة تنموية لها في التعليم أو الصحة أو أي مشاريع خدمية، وفي أحسن أحوال الأوقاف فقد تحولت من وسيلة لتقديم الخدمة إلى استثمار، حيث وُجد مع نمط الاقتصاد الليبرالي الرأسمالي نَهَم الاستثمار والتنمية لكامل الوقف ذاته على حساب نفعه وثمراته.

فسيطر على بعض المؤسسات الحكومية (الوزارات) ذلك النمط لتنعكس ثمرات الوقف بمخرجات نقدية (رقمية) فقط، وأحياناً تكون تلك المخرجات النقدية مرتفعة تتفاخر بها تلك الوزارات على حساب مخرجاتها التنموية والخدمية، مع العلم أن نهاية مطاف تلك الاستثمارات النقدية (الرقمية) في واقع الأمر هي دعم الأرصدة النقدية للبنوك المركزية للحكومات، وبالتالي تحول تلك الأرصدة إلى فتح شهية الأجنبي ليتم استثمارها أجنبياً، وهي بهذا الواقع مُسهم في تعزيز الاقتصاد العالمي أو الاقتصاد الغربي والأمريكي بشكل خاص، كما هو الواقع المعلَن، خاصةً لدى دول الخليج العربي التي تستثمر معظم سيولتها النقدية -مع الأسف- بما فيها أموال الأوقاف، كسيولة نقدية مدمجة فيما يُسمّى (الصناديق السيادية)[1] وغيرها.

وفي كثير من الأحوال يتم استثمار السيولة النقدية في سندات الخزانة الأمريكية بفوائد (ربوية) لا تتجاوز في غالب أحوالها نسبة 3%، وهذا ما لا يساوي حجم التضخم الاقتصادي السنوي العالمي، عدا عن حالات عدم ضمان استرداد تلك الأصول في حالات الإفلاس الاقتصادي العالمي المتكرِّر وقوعه، علماً أن الوقف من أموال بيت مال المسلمين على مصالح الأمة أولى في حفظ سيولتها النقدية كما فعل الخلفاء والولاة في عصور الدول الإسلامية المتعاقبة عبر التاريخ.

والمهم في الأمر أن تطبيع النُظم الاقتصادية الرأسمالية المعاصرة في عمق اقتصاد الدول الإسلامية، سواء صُنفت علمانية أو إسلامية؛ أصبح في نهاية المطاف في ظل التنظيمات البيروقراطية الحكومية يُشكِّل جنايات متعددة على الأوقاف ومخرجاتها، ما عزَّزَ انصراف المواطن عن الإسهام في وقف ماله أو بعض ماله وما يملك، وتلك جناية أخرى، وذلك ما تطلب التوعية بمخاطر تلك الجنايات المركَّبة الوارد بعضها في هذا المقال المختصر، والذي أختمه ببعض التوصيات المهمة.

أبرز التوصيات:

نتائج هذا المقال تحتم إيراد أبرز التوصيات التي تعيد للوقف قيمته واعتباره ونفعه لعامة المسلمين، ومن أبرزها:

1- يقول الشيخ صالح الحصين رحمه الله ناصحاً وموصياً: “ينبغي أن نوقظ إخواننا الصالحين حَسنيّ النية والقصد من غفلتهم، ونفتح عيونهم، على أن تأميم العمل الخيري، وبخاصة الوقف، خطة تفتقد الحكمة، وهي جديرة بأن تعكس على صاحبها قصده، فهو يريد القوة للنظام ونتيجته الطبيعية الضعف، ويريد الإصلاح ومآله الفساد” (انظر ورقة علمية بعنوان: تطبيقات الوقف بين الأمس واليوم؛ للشيخ صالح الحصين، على الرابط التالي):

http://rowaq.org/?p=19

2- العمل على استقلال الأوقاف بهيئات أهلية مستقلة عن الحكومات مرتبطة بالقضاء الشرعي المستقل، ومستفيدة مما يُسمّى في الإدارة الحديثة للدولة (القطاع الثالث) الذي ليس قطاعاً حكومياً (القطاع الأول)، وليس قطاعاً تجارياً (القطاع الثاني)، بل قطاعاً ثالثاً مستقلاً عن القطاعين، وترتبط به الأوقاف وجميع المؤسسات والجمعيات المعنية بالعمل الأهلي والخيري والإنساني.

3- الاستفادة من النظم الإدارية الغربية التي اقتبست من الحضارة الإسلامية مفاهيم الوقف وعملت بها، وفي هذا المجال يقول الحصين: “ولهذا فإن من أعطوا الحكمة في معاشهم وعلموا ظاهراً من الحياة الدنيا ممن يُسمُّونهم الدول المتقدِّمة؛ قد انتبهوا لهذا الأمر فحذروه أشد الحذر، وعلى سبيل المثال: يوجد في المملكة المتحدة البريطانية، والولايات المتحدة الأمريكية، والدول التي يسود فيها النظام القانوني الإنجلوسكسوني؛ نظام يشبه الوقف يُسمّى (الترست Trust).

وقد حرصت حكومات هذه البلدان على عدم التدخل في هذا النظام، واقتصرت على إيجاد نوع من الإدارة يهتم بالرقابة، والمعاونة، وتجميع المعلومات، وتقديمها لذوي العلاقات، وأبقت لهذا النظام خصوصيته وفرديته، وحذرت أن تتدخل في إدارته، وليس المجال متسعاً لبيان نتائج هذه السياسة الحكيمة والتي من أهمها تطور هذا النظام، واتساع نطاقه، وقدرته على التحرك ومواجهة حاجات المجتمع المختلفة، والمتعددة والمتغيرة” (انظر ورقة علمية بعنوان: تطبيقات الوقف بين الأمس واليوم؛ للشيخ صالح الحصين، على الرابط التالي):

http://rowaq.org/?p=19

4- الاستفادة من التطبيقات الإدارية الحديثة عن خصخصة المشاريع والخدمات بتطبيق مفاهيم الخصخصة على الأوقاف بما يحقق شرط الواقف ومرجعية القضاء واستقلال الأوقاف.

وفي الختام؛

فإن على الأمة الإسلامية بمثقفيها وعلمائها وعامتها وخاصتها أن تتنادى لتحرير الأوقاف من سيطرة الإدارات الرسمية عليها؛ لتعيد للوقف استقلاليته ومكانته وقيمته وفاعليته وتفاعل المجتمع معه.

 

المصدر: موقع طريق الإسلام.

 

ــــــــــــــــــــ

[1]- (انظر على سبيل المثال مقال: النفط بين بلح الشام وعنب اليمن؛ لـفهد بن عبد الله القاسم، صحيفة “الاقتصادية” السعودية، العدد: [7148]).