شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

الوقف… رؤية اقتصادية

فلسفة الوقف

إبراهيم بن علي المحسن

لا يخفى على المهتمين والباحثين ما انفردت به الحضارة الإسلامية من أنظمة وتشريعات تدل على تميزها وتطورها عن سائر الأمم والحضارات الأخرى. وليس أدل على ذلك من «نظام الوقف الإسلامي»، الذي حقق إنجازًا حضاريًّا، وتقدمًا معرفيًّا، ورقيًّا مدنيًّا، على كافة المستويات الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية؛ لما له من خصائص وسمات فريدة تميزه عن غيره؛ من حيث اتساع مجالاته، وتنوع أساليبه، وقدرته على التطور وملاءمة العصر.

مفهوم الوقف:

تذكر لنا معاجم اللغة العربية أن الوقف يعني: الحبس والمنع.

وفي الشرع يُراد به: الصدقة الجارية -أي: المستمرة على الدوام-. لأن صاحبها يبتغي بها استدامة الثواب وعدم انقطاعه؛ تقربًا إلى الله، ونيل رضاه.

وفي اصطلاح الفقهاء: تعددت فيه التعاريف؛ تبعًا لتعدد آرائهم في مسائله الجزئية؛ إلا أن أهمها وأشملها للمعنى الحقيقي، قولهم: الوقف: «تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة»(1). وهذا التعريف أصله قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «احبس أصلها، وسَبِّل ثمرتها»(2).

فقوله: «احبس» بمعنى: إمساك العين، ومنع تملكها بأي سبب من أسباب التمليك(3). وقوله: «أصلها» أي: العين الموقوفة. وقوله: «وسَبِّل ثمرتها» أي: أطلق فوائد العين الموقوفة وعائداتها للجهة المقصودة من الوقف والمعنية به(4).

مشروعيته:

الأصل الشرعي للوقف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(5)؛ حيث فسَّر العلماء «الصدقة الجارية» هنا: بأنها «الوقف»؛ لأن غيره من الصدقات لا يكون جاريًا. وأيضًا ما ورد من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في كيفية التصرف في غنيمته من فتح خيبر، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «أصاب عمر بخيبر أرضًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبتُ أرضًا، لم أُصب مالًا قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: «إن شئت حَبَّسْتَ أصلها، وتصدقت بها»، فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متمول فيه»(6). وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت!» دلالة على أنه ليس بواجب؛ بل هو عملٌ احتسابي اختياري، يقوم به المرء محبة وإعانة في الدنيا، وجزءًا وثوابًا في الآخرة.

ظهوره كنظام:

عرفت الأمم السابقة -على اختلاف أديانها- أنواعًا من التصرفات المالية، لا تخرج في معناها العام عن ما يعرف عند المسلمين من معنى الوقف(7). أما في الإسلام؛ فإن بداية ظهور الوقف كنظام؛ كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أوصى مخيريق اليهودي في أمواله وهي سبعة حوائط بالمدينة أن تكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتل في أحد، يضعها صلى الله عليه وسلم حيث أراه الله تعالى، وقد قتل يوم أحد وهو على يهوديته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مخيريق خير يهود»، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحوائط السبعة، وجعلها أوقافًا بالمدينة لله تعالى، وكانت أوَّل وقفٍ بالمدينة؛ وذلك لاثنين وثلاثين شهرًا من الهجرة(8).

ثم استمر الصحابة -رضوان الله عليهم- على ذلك؛ حتى قال جابر -رضي الله عنه-: «لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف»، فالذي قدر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك، فلم ينكره أحد، فكان إجماعًا.

ثم تتابع على ذلك من جاء بعدهم من التابعين، وتابعيهم، والعهود الإسلامية إلى وقتنا الحاضر في العمل بالوقف، والاهتمام بمصالحه؛ حتى صار الوقف في الإسلام من أوسع دوائر الجبايات؛ فضلًا عن كونه من أعظم مصادر المال لنفع أهله(9).

مميزاته:

يتسم الوقف بعدة خصائص ومعالم تميزه عن غيره، وهي التي أكسبته تلك الحيوية التي استمر أثرها قرونًا طويلة، منها:

أولًا: أمواله متنوعة: فيدخل فيه:

– الأصول الثابتة: وتشمل: الأراضي، والمصانع، والمدارس، والمشافي، وعموم المباني، والآبار، والعيون، وهي التي يطلق عليها الفقهاء مصطلح «العقار».

– والأعيان المنقولة: وتشمل: الأموال التي يستطاع التحكم بنقلها من مكان لآخر؛ كالسيارات، والحيوانات، والآلات الزراعية والصناعية، والمصاحف، والكتب، وما في حكمها.

– والأموال النقدية: وتشمل: النقود، وما في حكمها من صكوك، وأسهم، وسندات.

ثانيًا: الاحتفاظ بأصله، والتصدق بعوائده:

فهذه غاية الوقف الرئيسة: الإبقاء على عين الموقوفة للغرض الذي أوقفت عليه، وتقديم العوائد والمنافع من تلك العين للجهات الموقوف عليها.

ثالثًا: إعفاء عوائده من الضرائب:

شريطة الالتزام بالقرارات الضريبية التي تصدر عن أي منظم إداري بأي دولة؛ من ناحية التسجيل، والإثبات، واستكمال المسوغات؛ حتى تحصل على الإعفاء المقرر. والحكم هنا للأعم الأغلب في كثير من الدول ولعل أبرزها نظام التسهيلات الضريبية للأموال الخيرية والوقفية بالولايات المتحدة الامريكية، حيث عملت أمريكا على تقديم تنازلات وإعفاءات ضريبية للمتبرعين من خلال قانون الإعفاءات والتسهيلات الضريبية للأموال الخيرية والوقفية الذي صدر عام 1917م.

هذه الميزات وتلك الخصائص هي التي أدت إلى التراكم الوقفي الكبير خلال العصور السابقة، وشجعت على جعل الأوقاف أموالًا نامية، دائمة العوائد، متجددة المنافع، تؤتي أكله كل حين إذا ما صدقت النوايا. وهذا ما بدأ يتحقق فعلًا في كثير من البلدان العربية والإسلامية الآن؛ حيث عملت على فصل دوائر الأوقاف باعتبارها مؤسسات مستقلة تعنى بالوقف؛ من حيث ريعه، وتنميته، ومتابعته، وتحصيل غلته، وصرفه لمستحقيه، عن باقي المؤسسات التي تعنى بالإرشاد وشؤون الدعوة والبحوث والإفتاء وما شابه ذلك.

الوقف ودوره في التنمية:

من المعلوم أن أي نظام اقتصادي يهدف إلى تحقيق أمرين:

الأول: الرفاهية الاجتماعية.

الثاني: التنمية الاقتصادية(10).

وكل نظام من الأنظمة الاقتصادية الموجودة له وسائله المختلفة في تحقيق هذين الهدفين؛ إلا أن النظام الوقفي كان أبرز هذه الأنظمة في استخدام الوسائل التمويلية المناسبة، والاستثمارية الملائمة لحاجات المجتمع؛ حيث عمل على تحقيق التكافل الاجتماعي بين فئاته المتنوعة؛ من خلال وجوه البر المتعددة؛ كالوقف على الذرية والأولاد، أو المساكين والمحتاجين، أو ابن السبيل المنقطع، أو الوقف على المدارس، والمساجد، والمستشفيات، والأراضي والعقارات، والأوقاف للقرض الحسن، والبيوت الخاصة بالفقراء، والمطاعم التي يفرق فيها الطعام للمحتاجين، ووقف بيوت للحجاج بمكة ينزلون فيها وقت الحج، ووقف الآبار؛ بل إنه شمل -أيضًا- الوقف على شؤون الزواج لمن ضاقت أيديهم عن نفقاته، وغير ذلك(11). ولا شك أن ذلك كله يحقق تكافلًا اجتماعيًا فريدًا من نوعه؛ ويحل مشكلتان من أهم المشاكل الاقتصادية التي تواجه العالم اليوم، وهما: «الفقر، والبطالة»؛ وذلك بالاتجاه به نحو الاستثمار التجاري الأمثل الذي يجمع بين تحقيق الربح الاقتصادي، وتعميم المنفعة المجتمعية؛ من خلال إقامة منشآت تجارية؛ من مصانع، ومشاغل، ومحال تجارية، مما يستدعي استقطاب عمالة كثيفة لتلبية احتياجات هذه المنشآت التجارية؛ وهذا بدوره يؤدي إلى تشغيل أيدي عاملة كانت في السابق تعاني البطالة وقلة العمل، أو تدريبهم تمهيدًا لتشغيلهم في تلك المصانع والشركات الإنتاجية. وبذلك يكون الوقف قد ساهم في علاج الفقر بنوعيه: فقر الدخل، وفقر القدرة.

وهذا ما تسعى إلى تحقيقه بلادنا المباركة -المملكة العربية السعودية- متمثلًا في نظام الهيئة العامة للأوقاف، الصادر بقرار من مجلس الوزراء رقم (73)، بتاريخ 25-2-1437هـ، والمصدَّق عليه بالمرسوم الملكي رقم (م-11)، بتاريخ 26-2-1437هـ، ويعتبر هذا الكيان مصدر فخر لبلادنا؛ فهو يرعى شعيرة من شعائر الإسلام، ويُسهم في ازدهار اقتصاد البلاد والعباد.

(1) المغني: ابن قدامة (5-597).

(2) رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الصدقات، باب من وقف (رقم 2397)، والنسائي، كتاب الأحباس، باب حبس المشاع (6-232)، وهو صحيح الإسناد على شرط الشيخين. (إرواء الغليل (رقم 1583)).

(3) انظر: كشاف القناع (2-489).

(4) انظر: المرجع السابق (4-267).

(5) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (رقم 1631).

(6) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف (رقم 2586)، ومسلم في الوصية، باب الوقف (رقم 1632).

(7) أحكام الوقف: محمد عبيد الكبيسي (1-21).

(8) انظر: السيرة النبوية: لابن كثير (3-72).

(9) نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية: عبد الحي الكتاني (ص401).

(10) انظر: دور الدولة في التنمية في ضوء الاقتصاد الإسلامي (ص67).

(11) انظر: التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص (ص196).

المصدر: صحيفة الجزيرة