إبراهيم البيومي غانم
تكشف أبواب فقه الوقف وكتبه وما احتوته من أدلة وبراهين لإثبات شرعية الوقف، عن أن الفقهاء قد احتاجوا وهم بصدد ذلك إلى معرفة مقاصد الشريعة وتطبيقها؛ مثلما احتاجوا إليها وطبقوها بشأن أبواب الفقه الأخرى؛ سواء تعلقت بعبادات أو بمعاملات أو بعادات أو بجنايات.
وقد أرجع الشيخ الطاهر بن عاشور أسباب احتياج الفقهاء لمقاصد الشريعة إلى خمسة أسباب، هي: 1- فهم أقوال الشريعة ومدلولاتها بحسب الاستدلال اللغوي، والنقل الشرعي بالقواعد اللفظية. 2- البحث عما يعارض الأدلة؛ لأن البحث عن المعارض يقوى بمقدار ما ينقدح في نفس الفقيه وقت النظر في الدليل الذي بين يديه أن ذلك الدليل غير مناسب لأن يكون مقصوداً للشارع على علاَّته. 3- قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع؛ لأن القياس يعتمد إثبات العلل، وهذا قَد يحتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة كما في المناسبة. 4- إعطاء حكم لفعل أو حادث لا يعرف حكمه ولا له نظير يقاس عليه؛ لأن هذا كفيل بدوام أحكام الشريعة. 5- تلقي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلقي من لا يعرف علل أحكامها، وبمقدار ما يستحصل من الشريعة يقل لديه هذا التلقي الذي هو مظهر حيرة. وسنورد فقط الأسباب الثلاثة الأولى مشفوعة ببيان كيف استعان الفقهاء من خلالها بالمقاصد في تأصيل شرعية الوقف، أما السببان الرابع والخامس فلم يظهرا بوضوح في مجال تأصيل شرعية الوقف.
بالنسبة لفهم أقوال الشريعة ومدلولاتها، نجد أن الفقهاء استندوا في تأصيلهم لشرعية الوقف إلى أدلة كثيرة من القرآن والأحاديث النبوية، والإجماع. واستنبطوا منها أن كثرة الحض على فعل الخيرات، والترغيب في الإنفاق، وكثرة الصدقات الجارية للرسول ولأصحابه واطرادها من بعدهم، كل ذلك يعني أن من مقاصد الشريعة التعاون والمواساة، لأن في ذلك مصلحة حاجية جليلة، وأن من وسائل ذلك الإكثار من عقود التبرعات، ومنها الوقف، وألا تكون حوائل بين نية الخير وعمله. فمن أدلة القرآن الكريم قوله تعالى «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون» (آل عمران: 92)، قال العلماء إن هذه الآية تشمل الوقف لأنه صدقة كسائر الصدقات التي يتقرب العبد بها إلى الله تعالى. ومن الأدلة المستمدة من الأحاديث النبوية أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، وقد فسر العلماء الصدقة الجارية بأنها الوقف، لأن غيره من الصدقات لا يكون جارياً: أي مستمراً على الدوام، وهكذا استفاد العلماء من مفهوم النصوص ومن مدلولها أن الصدقة الجارية محمولة على الوقف، قاله الرافعي في الشرح الكبير على الوجيز للغزالي، وقاله غيره في غيره (انظر مثلاً: شرف الدين إسماعيل المقري، إخلاص الناوي، تحقيق عبد العزيز عطية زلط (القاهرة:1990ـ ج2/ ص446).
وأما الإجماع فقد خلص بعض العلماء إلى أنه منعقد على جواز الوقف، واستدلوا على ذلك بأن الصحابة صدر منهم الوقف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده أيضاً دون أن ينكره أحد. قال الخصاف بعد أن سرد ما روي في صدقات النبي وأصحابه: «وقد جاءت هذه الآثار في الوقوف، والذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرضه أن يحبس أصلها ويسبل ثمرتها سنة في ذلك قائمة، وفعل أصحاب رسول الله في ذلك وما وقفوه من عقاراتهم وأموالهم إجماع منهم على أن الوقوف جائزة ماضية» (أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني، كتاب أحكام الأوقاف- القاهرة: مطبعة ديوان عموم الأوقاف المصرية، 1321هــ – 1904- ص18).
وبالنسبة للأدلة التي احتج بها الفقهاء في إثبات شرعية الوقف، نجد أن البحث عما يعارضها وتفنيده كان موضع جدل طويل بين الفقهاء قديماً وحديثاً. وحتى يطمئن الفقهاء الذين أجازوا الوقف أنه لا يناقض مقصوداً للشرع فإنهم قد أشبعوا أدلة المعارضة بحثا، وفندوها واحداً واحداً. فردوا الدليل القياسي، وهو مخالفة الوقف للقواعد الفقهية، وذلك بقولهم إن الأقيسة الفقهية لا تعارض النصوص، فلا قياس في موضع النص، وبأن خروج الشيء إلى غير مالك أمر قد يقره الشرع، فقد أقر العتق، وهو إخراج إلى غير مالك. وكذلك فندوا الخبر القائل « لا حبس عن فرائض الله»، وفي رواية شريح « جاء محمد صلى الله عليه وسلم ببيع الحبيس»، فقالوا إن فيه ضعفاً، وعلى فرض صحته ليس فيه ما يعارض الوقف؛ لأن الوقف ليس حبساً عن فرائض الله، إذ هو تصرف في العين حال الحياة، كالهبة والصدقة العاجلة، ولكن لا أحد قال فيهما حبساً عن فرائض الله، بل قال مالك « تكلم شريح ببلاده ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين..»، وقال الشافعي « الحُبُس التي جاء بإبطالها رسول الله بينةٌ في كتاب الله، قال الله عز وجل « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام « فهذه الحبس التي كان أهل الجاهلية يحبسونها، فأبطل الله شروطهم فيها، وأبطلها رسول الله… ولم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته داراً ولا أرضاً تبرراً بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم «. وأسهم ابن حزم في إبطال الدليل نفسه فقال ما ملخصه: أن إخراج العين من الملك بالوقف في حال الحياة لا يعتبر حبساً عن فرائض الله، وأن خبر لا حبس بعد سورة النساء مطعون في بعض رواته، وأنه على فرض صحته منسوخ بأوقاف الصحابة بإقرار النبي أو بإذنه، كوقف سيدنا عمر رضي الله عنه، فإنه كان بعد خيبر، وآيات المواريث كانت في السنة الثالثة بعد أحد. ولا يمكن أن نفهم سر تركيز الفقهاء في نقدهم الأدلة المعارضة للوقف على دحض خبر «لاحبس عن فرائض الله» إلا لأنهم أرادوا بلوغ درجة الاقتناع التام من أن الوقف في أصله الشرعي ليس ذريعة لإضاعة مال الغير من حق وارث أو دائن ـ
وأما بالنسبة للقياس كأحد الطرق المؤدية إلى معرفة مقاصد الشريعة، نجد أن جمهور الفقهاء قد أعملوا آلية القياس وهم يستدلون على شرعية الوقف، ومن ثم التعرف على مدى اتساقه مع مقاصد الشريعة،» فالقياس يعتمد إثبات العلل، وإثبات العلل قد يحتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة كما في المناسبة، وتخريج المناط، وتنقيح المناط، وإلغاء الفارق». ومن أهم النماذج التي قاسوا عليها الوقف لإثبات شرعيته وضبط مقاصده: «بناء المسجد»، و»عتق العبد»، فكل منهما عبارة عن إخراج للملك وجعله على حكم ملك الله تعالى، فلا يباع ولا يوهب ولا يورث. وعلى ذلك قاسوا الوقف، وقالوا إنه إذا جاز هذا النوع من إخراج الملك رجاء الثواب ومصلحة الآخرة، فإنه يجوز إخراج الملك أيضاً لمصلحة المعاش للإعانة على تدبير أمور الحياة، كبناء الخانات، والمستشفيات، والجسور، والمدارس، وغير ذلك من وجوه المنافع الخاصة والعامة التي بها تتحقق المصلحة، والمصلحة هي مقصود الشارع بلا خلاف.
وقد استدل الصاحبان أيضاً بالمسجد والعتق على لزوم الوقف؛ ليتوصلا إلى إثبات لزوم الوقف ـ بخلاف شيخهما ـ وليبلغا من اللزوم إلى إثبات دوام ثواب الواقف، ومن ثم ضمان المصلحة التي هي مقصود الشرع، لكل من الواقف، باستدامة الثواب بعد موته، والموقوف عليه باستدامة الإنفاق وتوفير الحاجات. « فاتخاذ المسجد لازم باتفاق، وهو إخراج لملك البقعة عن ملكه من غير أن يدخل في ملك أحد، ولكنها تصير محبوسة بنوع قربة قصدها، وبهذا يتبين أنه ليس من ضرورة الحبس عن الدخول في ملك الغير امتناع خروجه عن ملكه، وإذا خرج عن الملك لزم الوقف».
وإذا نظرنا إلى عقد الوقف من حيث تكييفه الفقهي وارتباطه بالمقاصد الشرعية نجد أن العلماء قد صنفوه ضمن عقود التبرعات، أو هو إسقاط بغير عوض، ولما كان كذلك مست الحاجة إلى إحاطته بسياج من المقاصد التي تضمن حسن استخدامه في جلب المصالح ودرء المفاسد. وفي هذا السياق استخلص ابن عاشور أربعة مقاصد للشريعة من عقود التبرعات. أولها: التكثير من تلك العقود لما فيها من المصالح العامة والخاصة، وإذا كان شح النفس حائلاً دون تحصيل كثير منها دلت أدلة الشريعة على الترغيب فيها والحض عليها. وثانيها أن تكون التبرعات صادرة عن طيب نفس؛ لأنها من المعروف والسخاء، ولأن فيها إخراج جزء من المال المحبوب بدون عوض يخلفه، فتمخض أن يكون قصد المتبرع النفع العام والثواب الجزيل. وثالثها هو التوسع في وسائل انعقاد الصدقات حسب رغبة المتبرعين، وقد تبين ترغيب الشريعة فيها في المقصد الأول، ففي التوسع في كيفيات انعقادها خدمة لذلك المقصد، ولهذا أباحت الشريعة تعليق العطية على حصول موت المعطي بالوصية وبالتدبير، مع أن ذلك مناف لأصل التصرف في المال؛ لأن المرء إنما يتصرف في ماله مدة حياته. ومن أجل ذلك أيضاً أعملت شروط المتبرعين ما لم تكن منافية لمقصد أعلى. ورابعها هو أن لا يجعل التبرع ذريعة لإضاعة مال الغير كالوارث والدائن.
وتكشف لنا كثرة اللجوء إلى قياس الوقف على العتق لإثبات صحة الوقف وشرعيته ولزومه عن مغزى عميق لنظام الوقف في ارتباطه بالمقاصد العامة للشريعة، فكثرة الأمر بعتق الرقاب في القرآن والسنة تدلنا على أن الحرية من مقاصد الشريعة، وممارسة الوقف بما هي عملية إسقاط إرادي للملك تندرج ضمن ممارسات التحرر الذاتي من أسر شهوة التملك، ومن أسر حب الذات، وتندمج كذلك في منظومة أعمال التقوى التي تبدأ بالتوبة وترك الذنوب (إسقاطها)، وتحرير النفس من أسر المعصية، وأقرت الشريعة من وسائل اقتحام العقبة (التحرر) فك الرقبة؛ أي العتق، وقس عليه الوقف من حيث تحقيق مقصد الحرية للذات وللغير، وجعلها قيمة أساسية في الحياة اليومية الفردية والجماعية للمجتمع.