بعض المحاذير الشرعية في الأوقاف – الجزء الثالث (3)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
ففي المقالين السابقين تناولنا بعض المحاذير الشرعية في الأوقاف من جهتي الواقف والمال الموقوف، وفي هذا المقال بحول الله سنتناول بعض المحاذير الشرعية في الأوقاف من جهة الموقوف عليه، وأقصد بها بعض الأمور المخالفة للشرع والتي قد يقع فيها الواقف في وقفه والمتعلقة بالموقوف عليه، منها:
أولاً: أن يكون الموقوف عليه جهة معصية:
يشترط أن تكون الجهة الموقوف عليها جهة بر وقربة سواء أكان الموقوف عليه مسلماً أم ذمياً لأن الذمي موضع قربة ولهذا يجوز التصدق عليه([1])، وقد روي «أَنَّ صَفِيَّةَ ابْنَةَ حُيَيٍّ رضي الله عنها – زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم – أَوْصَتْ لِابْنِ أَخٍ لَهَا يَهُودِيٍّ» ([2]) .
ونظراً لاشتراط أن يكون الموقوف عليه جهة قربة فلا يجوز أن يكون الموقوف عليه جهة معصية: كالوقف على الكنائس والبيع وبيوت النار ولو من ذمي؛ لأنه معصية وإعانةً لهم على إظهار الكفر؛ لأن القربة تتحقق بكونها قربة في نظر الشريعة ([3]).
قال ابن قدامة -رحمه الله-:«وإذا لم يكن الوقف على معروف أو بر فهو باطل ، وجملة ذلك أن الوقف لا يصح إلا على من يعرف، كولده، وأقاربه، ورجل معين، أو على بر،كبناء المساجد والقناطر، وكتب الفقه والعلم والقرآن، والمقابر، والسقايات وسبيل الله »([4]).
وقال منصور بن يونس البهوتى-رحمه الله-:«الشرط الثاني: كونه- أي الوقف – على بر، كالوقف على المساكين والمساجد والقناطر والأقارب؛ لأنه شرع لتحصيل الثواب. فإذا لم يكن على بر لم يحصل مقصوده الذي شرع لأجله»([5]) اهـ .
ثانياً: أن يكون الموقوف عليه جهة منقطعة:
الوقف على جهة لا تنقطع كالفقراء والمساجد صحيح باتفاق الفقهاء([6]) لكنهم يختلفون فيما إذا كان الوقف على منقطع الابتداء أو الوسط أو الانتهاء.
وبيان ذلك فيما يأتي:
1) إذا كان الموقوف عليه منقطع الابتداء والانتهاء:
كمن يقف على ولده ولا ولد له فلا يصح هذا الوقف عند الحنابلة والشافعية في المذهب، ويصح عند الحنفية وتصرف الغلة للفقراء فإذا وجد الولد صرف إليه، وللمالكية أقوال ثلاثة([7]) :
أولها للإمام مالك قال: الوقف على ولده ولا ولد له صحيح إلا أنه غير لازم، فللواقف بيعه قبل ولادة المحبس عليه وإن لم يحصل له يأس من الولد، فإن غفل عنه حتى حصل له ولد تم الوقف.
والثاني لابن القاسم، قال: الوقف لازم بمجرد عقده ولا يكون ملكاً للواقف إلا إذا حصل يأس من الولد فيوقف أمر ذلك الحبس للإياس فإذا يئس من الولد كان له بيعه.
والثالث: لابن الماجشون، قال: يحكم بحبسه ويخرج إلى يد ثقة ليصح حوزه وتوقف ثمرته فإن ولد له كان الحبس والغلة له وإن لم يولد له كان لأقرب الناس للواقف.
قال الدسوقي: ومحل الخلاف إذا لم يكن قد ولد له سابقاً، أما إن كان قد ولد له فإنه ينتظر بلا نزاع.اهـ.
2) إذا كان الموقوف عليه منقطع الابتداء متصل الانتهاء:
كمن وقف على نفسه – عند من لا يجيز الوقف على النفس – أو على عبدٍ ثم على الفقراء، فعند الحنابلة في المذهب يصرف إلى من بعده – أي الفقراء – في الحال، وعند المالكية الحكم كذلك إن حيز من الموقوف عليهم قبل حصول مانع للواقف من فلس، أو مرض، أو موت فإن لم يحصل حوز حتى حصل للواقف مانع من هذه الأمور الثلاثة (الموت أو المرض أو الفلس) لم يتم الوقف وللورثة في حالة المرض أو الموت إبطاله ولهم إجازته، وفي حالة الفلس كان للغريم إبطاله وأخذه في دينه.
وقال الشافعية: فيه طريقان: قال الشيرازي: من أصحابنا من قال يبطل قولاً واحداً، لأن الأول باطل، والثاني فرع لأصل باطل فكان باطلا، ومنهم من قال فيه قولان أحدهما أنه باطل لما ذكرناه.
والثاني أنه يصح لأنه لما بطل الأول صار كأن لم يكن، وصار الثاني أصلاً، فإذا قلنا إنه يصح فإن كان الأول لا يمكن اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء، لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه.
وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها ينقل في الحال إلى من بعده، لأن الذي وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه فصار كالمعدوم.
والثاني وهو المنصوص: أنه للواقف ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل لمن بعده، لأنه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء فبقي على ملكه.
والثالث أنه يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل للفقراء، لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليهم([8]).
ثالثاً: إذا كان الموقوف عليه منقطع الوسط:
كما إذا وقف على زيد ثم على عبده أو على رجل مبهم ثم على الفقراء، أو وقف على زيد ثم على نفسه ثم على الفقراء.
فعند الحنفية والمالكية والحنابلة يصرف إلى الفقراء بعد انقطاع من يجوز الوقف عليه لكن ذلك مقيد عند المالكية بما إذا حصل حوز للموقوف عليه قبل حصول مانع للواقف من فلس أو مرض أو موت على ما مر بيانه في الحالة الثانية.
ويصح الوقف أيضا عند الشافعية، إلا أنهم فرقوا بين صورتين:
الأولى: لو كان الوقف منقطع الوسط كوقفت على أولادي ثم على رجل مبهم ثم على الفقراء فالمذهب صحته لوجود الصرف في الحال والمآل ؛ وعلى هذا فإنه بعد أولاده يصرف للفقراء لا لأقرب الناس إلى الواقف لعدم معرفة أمد الانقطاع.
الثانية: كأن قال: وقفت على أولادي ثم على العبد نفسه ثم على الفقراء، كان منقطع الوسط أيضاً، ولكن في هذه الصورة يصرف بعد أولاده لأقرباء الواقف([9]).
رابعاً: إذا كان الموقوف عليه منقطع الانتهاء:
كمن وقف على أولاده ولم يزد، أو وقف على زيد ثم على الكنيسة.
فعند الحنفية يشترط أن يجعل آخر الوقف لجهة لا تنقطع، أي أنه لابد أن ينص على التأبيد وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وهذا في غير المسجد، وعند أبي يوسف روايتان:
الرواية الأولى: أن التأبيد غير شرط، ولو سمى جهة تنقطع كما لو وقف على أولاده ولم يزد جاز الوقف، وإذا انقرضوا عاد إلى ملكه لو حياً، وإلا فإلى ملك الوارث
والرواية الثانية: أن التأبيد شرط حتى تصرف الغلة بعد الأولاد إلى الفقراء([10]).
والمالكية يفرقون بين الوقف المؤبد والوقف المؤقت:
فبالنسبة للوقف المؤبد: إذا انقطعت الجهة الموقوف عليها رجع الوقف لأقرب فقراء عصبة المحبس نسباً ويكون وقفاً عليهم، ويستوي في الأنصبة الذكر والأنثى حتى ولو كان الواقف شرط في أصل وقفه أن يكون للموقوف عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن مرجع الوقف إليهم ليس بإنشاء الواقف وإنما هو بحكم الشرع.
لكن لو قال الواقف: إن انقطع الوقف رجع لأقرب فقراء عصبتي للذكر مثل حظ الأنثيين، فالظاهر أنه يعمل بشرطه حيث نص عليه في المرجع، لأن المرجع صار بذلك في معنى الحبس عليه فيقدم الابن فابنه فالأخ فابنه فالجد فالعم فابنه ويشترك معهم أقرب امرأة من فقراء أقارب الواقف لو كانت ذكراً كانت عصبته كالبنت والأخت والعمة، فإن ضاق الوقف في الغلة الناشئة عنه قدم البنات على الأخوة لا على الابن فتأخذ البنات ما يكفيهن ولا يأخذن الجميع، ولا يدخل فيه الواقف ولو فقيراً، فإن كان الأقرب غنياً فلمن يليه في الرتبة.
وإن كان الوقف مؤقتاً: كمن وقف على شخص أو أكثر وقيده بحياتهم أو حياة فلان أو قيد بأجل كعشرة أعوام، فإن من مات منهم فنصيبه لبقية أصحابه، فإذا انقرضوا رجع ملكاً لربه أو لوارثه إن مات، فإن لم يقيد بشيء وأطلق فيرجع بعد انقراض جميعهم مرجع الأحباس على الأصح، وهو رواية المصريين عن مالك ومنهم ابن القاسم وأشهب. ومقابل الأصح رجوعه ملكاً للواقف أو لوارثه وهو رواية المدنيين.
وإذا رجع مرجع الأحباس فإنه يكون كالوقف المؤبد أي لأقرب عصبة المحبس ولامرأة لو فرضت ذكراً عصبت كالبنت، فإن لم يكن عصبة أو انقرضوا فللفقراء([11]).
وعند الشافعية لهم رأيان، الأول وهو الأظهر: صحة الوقف لأن مقصود الوقف القربة والدوام وإذا بين مصرفه ابتداء سهل إدامته على سبيل الخير. والثاني: بطلان الوقف لانقطاعه على الأظهر فإذا انقرض المذكور فلهم رأيان:
الأول: فالأظهر أنه يبقى وقفاً.
الثاني: يرتفع الوقف ويعود ملكاً للواقف أو وارثه إن مات.
وعلى الرأي الأول الذي يرى صحة الوقف، لهم رأيان في مصرفه: أحدهما وهو الأظهر أنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور لأن الصدقة على الأقارب من أفضل القربات، وفي الحديث: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»([12]).
ويختص المصرف وجوباً – كما صرح به الخوارزمي وغيره بفقراء قرابة الرحم لا الإرث في الأصح فيقدم ابن بنت على ابن عم.
فإن لم يكن له أقارب صرف الإمام الريع إلى مصالح المسلمين، كما حكاه الروياني عن النص، وقيل: يصرف إلى الفقراء والمساكين.
ومقابل الأصح أنه يصرف إلى الفقراء والمساكين، لأن الوقف يؤول إليهم في الانتهاء([13]).
وعند الحنابلة يصح الوقف ويصرف بعد من يجوز الوقف عليه إلى ورثة الواقف نسبا حين الانقطاع على قدر إرثهم، ويكون وقفا عليهم فلا يملكون نقل الملك في رقبته([14])اهـ ([15]).
وعلى ما سبق ينبغي أن يحدد الواقف الموقوف عليه بعناية بحيث تكون جهة بر وقربة، فله أن يوقف وقفاً خاصاً على ذريته، أو عاماً على أوجه البر المختلفة، أو مشتركاً بين الذرية وأوجه البر.
كانت هذه بعض المحاذير الشرعية في الأوقاف والمتعلقة بالواقف والمال الموقوف والموقوف عليه ، أسأل الله عز وجل أن أكون قد وفقت في جمعها وطرحها، فما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ أو سهوٍ أو نسيانٍ فمن نفسي والشيطان، ورحم الله من قرأها فسد خللاً أو أصلح عيباً أو ذكّر بمفيد، و«مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»([16]).
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
—
([1]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين(3/ 360، 361)، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي(4/ 77)، ومغني المحتاج(2/ 379، 380)، والمهذب(1/ 448)، وشرح منتهى الإرادات(2/ 492، 493)، والمغني(5/ 644، 646).
([2]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6 / 33) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
([3]) الموسوعة الفقهية الكويتية (44/ 140).
([4]) المغني(6/37-38).
([5]) شرح منتهى الإيرادات(2/401).
([6]) ابن عابدين(3/ 365)، والمهذب(1/ 448)، والمغني(5/ 622، 623)، والدسوقي(4/ 84).
([7]) حاشية ابن عابدين(3/ 414)، والدسوقي(4/ 89)، ومنح الجليل(4/ 66)، ومغني المحتاج (2/ 379، 386)، والمهذب( 1/ 448)، وشرح منتهى الإرادات(2/ 495 – 496)، والمغني(5/ 607).
([8]) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي(4/ 80 – 81)، والشرح الصغير(2/ 304)، والمهذب(1/ 449)، وشرح منتهى الإرادات(2/ 497- 498).
([9]) حاشية ابن عابدين(3/ 414)، وحاشية الدسوقي(4/ 80)، مغني المحتاج(2/ 384)، وحاشية القليوبي(3/ 103)، وشرح منتهى الإرادات(2/ 497 – 498).
([10]) حاشية ابن عابدين(3/ 365)، وتبيين الحقائق(3/ 326 – 327)، وفتح القدير(6/ 214 – 215).
([11]) الدسوقي(4/ 85 – 87)، والشرح الصغير(2/ 305 – 306).
([12]) حديث: ”الصدقة على المسكين. . .” أخرجه الترمذي (3/ 38) من حديث سلمان بن عامر. وقال: حديث حسن.
([13]) مغني المحتاج(2/ 384)، والمهذب(1/ 448 وما بعدها).
([14]) شرح منتهى الإرادات(2/ 498).
([15]) الموسوعة الفقهية الكويتية(44/ 139-149 بتصرف يسير).
([16]) رواه مسلم(1893).
—
لطلب خدمة من خدمات ثبات فنسعد بتواصلكم معنا عبر إحدى وسائل التواصل في الأسفل?:
– الهاتف الثابت? 0112575757
– البريد الإلكتروني? info@thbat.com
– واتساب? 966555139386
ولطلب إستشارة فيمكنكم الدخول الى صفحة طلب الاستشارات وتعبئة نموذج الاستشارات (أضغط هنا)
لمعرفة خدمات الأوقاف التي تقدمها ثبات او الاستفسار عن خدماتنا نرجوا زيارة مواقع التواصل الاجتماعي
Social media?:
Twitter
الهاتف الثابت?0112575757 من الساعةالـ8 صباحاً☀وحتى الساعة الـ6 مساءاً?
—
مصدر الخبر: ساعي الوقفية
?حماده اسماعيل فوده?