الأحد 10 جمادى الأولى 1436هـ 1 مارس 2015م.
لا يخفى عليكم دور البنوك والمؤسسات المالية في تطوير ومساندة القطاع الوقفي في الدول الغربية، فالصناديق الوقفية هي نموذج للتعاون، والنماذج متعددة في الشراكات وإصدار الأسهم الوقفية وإعطاء الأولوية في الاكتتابات وتطوير الكوادر دون مقابل دعمًا وتقوية للقطاع.
تجربة الوقف:
عُقد في مدينة دبي تحت إدارة المعهد الدولي للوقف الإسلامي في ماليزيا قبل عامين، مؤتمر عن التجارب العالمية للمشاريع الوقفية، وقد قدم ممثلو عدد من الدول العربية والغربية تجارب جميلة ومهمة، لفت انتباهي بعض ما جاء فيها، وكان أكثرها تأثيرًا وقفة ممثل إحدى الجهات الوقفية التركية حينما قال إن مدن تركيا ومدينة إسطنبول بالخصوص تشغل الأوقاف حيزًا كبيرًا فيها، وقد عمل العثمانيون حكومة وشعبًا على إبقاء أنفس المواقع في وسط المدينة لخدمة الإسلام، وخُصص بعضها لخدمة الحرمين الشريفين والدعوة لدين الله، وقد تميّزت هذه الأوقاف بأنها مدرّة (إيجارات دائمة) ولا تحتاج إلى صيانة من قبل الموقف؛ نظرًا لكونها محلات أو مساكن ضيافة يعمل المشغل على المحافظة عليها كجزء من التزاماته.
الجميل أيضًا أن هذه الأوقاف بقيت عصورًا متعددة تُعنى بالتعليم والتدريس للعلوم بأشكالها المختلفة، بما فيها العلوم الإسلامية، إلى أن وقعت بيد الحكومات العلمانية، فكان وأدها، كان من المؤثر لي كذلك قصة إحدى دول الجمهوريات الإسلامية (أوزبكستان) عندما تحرروا من وطأة الحكومات الشيوعية فهرعوا إلى إخوانهم في الأوقاف التركية بطلب القيام بحق الدعوة وتعلّم القرآن الكريم والسنة المطهرة، فما كان منهم إلا أن قدموا لهم المال والدعاة، ويحدث قائلًا بارك الله لنا في وقفنا من حيث لا نعلم حتى انطلقنا إلى أكثر من 70 مدينة وقرية في الجمهوريات الإسلامية، وقد انتهت بنا الأمور اليوم إلى أن أوقافنا نمت لتُصرف على الدعوة في الصين، وها نحن اليوم معكم بعد أن أنشأنا أول وقف لنا في بكين.
إن حضارتنا الإسلامية بما جاءت من شريعة غراء تتفق وطبيعة روح الإنسان ونظرته باعتباره مخلوقًا متميزًا في هذا الكون، فالطابع الخيري له يمثل ركنًا ركينًا وأساسًا متينًا لها ولا يمكن النظر إلى تاريخ الأمة الإسلامية بمعزل عن هذه السمة التي اتصف بها المجتمع المسلم أفرادًا وجماعات.
بعد هذه المقدمة تشدني تجربتي في الحديث عن تجارب عالمية حديثة قديمة، أبدؤها باعتراف إحدى الباحثات الفرنسيات والذي سطرت فيه كيف استفاد العالم الغربي في مدرسة الوقف من المسلمين واستطاعت الكنائس والجامعات نقلها لأوروبا أولًا لتأسيس القلاع الكنسية والتعليمية لخدمة التنصير في المجتمع الأوروبي. هل تعلمون مثلًا أن الكنيسة الكاثوليكية تملك أهم المواقع العقارية في وسط المدن الأوروبية؟ هل تعلمون أن مواقف السيارات مثلًا في مدينة لندن اليوم هي أوقاف للكنيسة وترتفع قيمتها يومًا بعد يوم لكون مواقعها متميزة، غير أنها تدرّ دون توقف ودون تكلفة تُذكر؟
من أعرق الأوقاف الغربية الجامعات العملاقة المتميزة، سواء في أوروبا أو أمريكا، وتوجد فيها معاهد أبحاث يستثمر بها رجال الأعمال واليهود العقول وحقوق الاختراع التي تمثل الأوقاف الأعلى ربحية، كونها تمتلك جزءًا في عائدات المشاريع والمنتجات والأجهزة التي تنتشر عالميًا ويبقى ريعها في ازدياد متراكم لخدمة أوقاف هذه الجامعات. من أهم هذه الجامعات جامعة هارفرد بأكثر من 31 مليار دولار، وجامعة كامبردج بأكثر من 4 مليارات جنيه إسترليني.
لا تنحسر تجربة الوقف في الاستثمار وحبس الأصل في الأصول العقارية الثابتة، فقد اطلعت مؤخرًا على تجارب في دولة نيوزيلندا التي تتميز بالأراضي الزراعية والثروة الحيوانية الخصبة، أعجبني حرص المسلمين هناك قديمًا وقد تناقلوا التجربة عن أهل تلك البلاد، فهم يوقفون المزارع ويعمل الفقراء من أهل القرى في تلك المزارع على تربية الأغنام والاستفادة منها عبر توفيرها بكميات كبيرة كأضاحي للمؤسسات الوقفية في الغرب والشرق، مع الاستفادة من أوبارها وجلودها في مشاريع متعددة، ما يعظم الفائدة على رأس المال وحركته الدائمة على مدار العام، هذه التجارب المتواضعة جزء من منظومة الأوقاف الخيرية في الدول الغربية.
وتوجد بعض المؤسسات الوقفية في الغرب على شكل جامعات أو مستشفيات أو شركات أو أسهم في شركات، وتزاول أعمالها وأنشطتها التجارية غالبًا على اعتبار أنها مؤسسات غير ربحية معفاة من الضرائب. وهناك أنواع كثيرة من الأوقاف، من أبرزها: المؤسسات الوقفية الخاصة ويصل عددها إلى 103.880 مؤسسة مسجلة، وهي تشكل 74 % من العدد الحقيقي لتلك المؤسسات.. دخلها من السيولة المالية لعام 2005م ما يقارب 242 مليار دولار، ولديها أصول ثابتة تتجاوز قيمتها 421 مليار دولار. ومن أبرزها كذلك المؤسسات الخيرية العامة، ويصل عددها إلى 332.988 مؤسسة مسجلة، وهي تشكل 39% من العدد الفعلي، وكانت السيولة والتبرعات التي قدمت لها عام 2005م تقارب 1.5 تريليون دولار، وتصل قيمة أصولها الثابتة للعام نفسه نحو 2 تريليون دولار.
ويدخل تحت اسم المؤسسات الوقفية الخاصة كثير من المؤسسات الوقفية في الغرب، مثل وقفيات (وارن بافت) الأمريكي وقيمتها 37 مليار دولار، وهي تساوي 85% من ثروته؛ ومؤسسة (بيل وميلندا غيتس) الوقفية، وقد بلغ إجمالي مال هذه الوقفية في عام 2004م قرابة 32 مليار دولار؛ وكذلك وقفية (فورد)، وغيرها من الوقفيات.
وتؤكد الأرقام السابقة أن الأوقاف تعدّ من أقوى محركات التنمية المستدامة البشرية والمادية في الغرب.
هذا القطاع العريض تقوم على خدمته أنظمة ودوائر رسمية حرصًا على تنميته واستدامته، فهو المغذي الرئيس للقطاع الثالث المعني بتنمية المجتمع باجتياجاته المختلفة التعليمية والصحية والمهنية والبحثية والاقتصادية وغيرها في مجالات الحياة المختلفة، وهي كما ترى أصل الفكرة التي ولدت في أحضان الحضارة الإسلامية وبقيت على مدار التاريخ تجربة فريدة للأوقاف الإسلامية امتدت منذ أن بذرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنه وتشريعه أول وقف في الإسلام، وهو على الأصح وقف أراضي مخيرق رضي الله عنه، وكان ذلك في السنة الثالثة للهجرة بعد غزوة أحد، تتنافس الدول الغربية على خدمة هذا القطاع لمعرفتها التامة بأهمية المؤسسات الوقفية في مساعدتها على القيام بأعباء الخدمة المجتمعية والارتقاء بالخدمات الإنسانية..
ومن أهم التشريعات التي تخدم هذا القطاع:
خصم جميع ما ينفق من تبرعات على المؤسسات الوقفية والخيرية في ضرائب الشركات الملزمة من قبل الحكومات في حال صرفها للجهات الوقفية والخيرية، ما دفع كثيرًا من أصحاب الثروات والشركات العملاقة لتحويل أموال الضرائب إلى هذا القطاع. ولعل أحدث التجارب العملاقة هو وقف بيل غيتس بقيمة 37 مليار دولار، وتبعه وقف وارن بفر بـ 31 مليار دولار. ومما تجدر الإشارة إليه أن أنظمة الضرائب في الولايات المتحدة الأمريكية تستقطع نسبة 40% كضريبة وفاة للثروات الكبيرة، وهو ما يدفع الأثرياء إلى التنازل عن هذه الثروات للمؤسسات الخيرية الوقفية كنوع من التشجيع على نموها وتقويتها.
ولنا وقفة مهمة حول الصناديق الوقفية، فهي تمثل الحجم الأكبر بعد الأصول العقارية وحصص الشركات العينية، وقد زرت بعضها واطلعت على تجربتها من كثب، وتعمل بنظم مجموعة من مجالس إدارة ولجان تنفيذية واستثمارية وإدارة المخاطر الخاصة بكل صندوق استثماري، ما يجعل لعائدات هذه الصناديق السبق على الصناديق الأخرى الاستثمارية غير الوقفية؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وبالخصوص عام 2008، تأثرت الصناديق الاستثمارية دون استثناء بالأزمة المالية العالمية الكارثية، وبقيت الصناديق الوقفية الجامعية وغيرها تحقق قرابة 8% على رأس المال، وذلك ناتج عن تنوع الاستثمار وتحقيق مبدأ إدارة المخاطر.
من التجارب الحية تجربة الهند في تنمية الأوقاف عبر القروض الصغيرة، فقد أنشأت برنامج تنمية الأوقاف الإسلامية الحصرية وخصصت له منحة مالية قدرها 500.000 روبية هندية يستخدمها المجلس المركزي للأوقاف في تقديم قروض صغيرة لتمويل مشروعات وقفية في المدن، وقد استطاعوا أن يصلوا بالمبلغ إلى 150 مليون روبية خلال 25 عامًا، وبقي المبلغ إلى تاريخه مستثمَرًا في القروض الوقفية، وعوائده رأسمال للصندوق.
أخيرًا؛ لا يخفى عليكم دور البنوك والمؤسسات المالية في تطوير ومساندة القطاع الوقفي في الدول الغربية، فالصناديق الوقفية هي نموذج للتعاون، والنماذج متعددة في الشراكات وإصدار الأسهم الوقفية وإعطاء الأولوية في الاكتتابات وتطوير الكوادر دون مقابل دعمًا وتقوية للقطاع.
أخيرًا مرة أخرى؛ فإنني أنصح بالاستفادة من التجارب الدولية قديمًا وحديثًا، وأرى ضرورة نقلها وصياغتها بما يتماشى مع روح شريعتنا الغراء.