الاحد 29 شعبان 1437هـ الموافق 5 يونيو 2016م
أجمع الباحثون والمفكرون المحدثون، الذين تناولوا في أبحاثهم مؤسسة الوقف وأبعادها الحضارية على الإشادة بفضل الوقف في توفير الرعاية الصحية لأبناء المجتمع الإسلامي قبل العصر الحديث.
فضل الأوقاف في مجال الرعاية الصحية
لقد أظهرت جهود أولئك الباحثين، بعد الاطلاع على الوثائق الوقفية وكتب التاريخ والرحلات، أن كثيرا من مراكز الرعاية الصحية والمستشفيات التي انتشرت في سائر المدن والأمصار الإسلامية كانت تعتمد اعتمادا كبيرا على مواردالأوقاف.
كما تحدثت عن وفرة الأوقاف التي أنشت خصيصا لإنشاءالمستشفياتوالإنفاق عليها وإمدادها بالأدوية ووسائل العلاج اللازمة، وتحدث بعض الباحثين عن أنواع المراكز الصحية التي رعتها الأوقاف، فذكر، منها ستة أنواع:
1- المستشفيات الكبيرة. 2- المراكز الصحية الصغيرة. 3- المستوصفات المتنقلة.
4- مستشفيات السجون. 5- الصيدليات ومخازن الأدوية. 6- المدارس الطبية التعليمية[1].
المستشفيات الكبيرة
كان أول مستشفى كبير في تاريخالحضارة الإسلاميةهوالبيمارستانالذي أمر ببنائههارون الرشيد(170هـ – 193هـ) فيبغداد، ومن المستشفيات التي أقيمت ببغداد مستشفى السيدة أم الخليفة المقتدر بالله، ويسمى مستشفى السيدة، افتتح في اليوم الأول من محرم 203هـ، كما أقام المقتدر مستشفى آخر ببغداد، وسمي المستشفى المقتدري، وتعددت المستشفيات الكبيرة وانتشرت حتى كان ببغداد وحدها في مطلع القرن الرابع خمسة مستشفيات[2].
وبلغ من عناية المسلمين بالرعاية الصحية وتطوير خدماتها أن خصصت أوقاف لبناء أحياء طبية متكاملة، حدثابن جبيرفي رحلته أنه وجد في بغداد حيا كاملا من أحيائها يشبه المدينة الصغيرة، كان يسمى بسوق المارستان، يتوسطه قصر فخم جميل وتحيط به الغياض والرياض والمقاصير والبيوت المتعددة، وكلها أوقاف وقفت على المرضى، وكان يؤمه الأطباء والصيادلة وطلبة الطب، إذ كانت النفقات جارية عليهم من الأموال الوقفية المنتشرة ببغداد[3].
وتحدثت كتب التاريخ عن المستشفيات التي أنشئت فيمصربفضل أموال الوقف فذكروا منها مستشفى أنشأه الفتح ابن خاقان وزير المتوكل على الله العباسي، ومستشفى آخر أسسه أمير مصرأحمد بن طولون، سمي باسمه، وحبس له من الأوقاف ما يلزم للإنفاق عليه، وبنى فيه الحمامات للرجال والنساء.
وكان من أشهر المستشفيات في العصرالأيوبيوالمملوكيتلك التي أنشأهاصلاح الدين الأيوبي[4]، وتحدث المؤرخون والرحالة عن المستشفى الذي أنشأه الملكقلاوونبمصر، وجعله وقفا لعلاج مرضى المسلمين، قال عنهابن بطوطة: “يعجز الوصف عن محاسنه، وقد أعد فيه من الأدوية والمرافق الخدمية ما لا يحصى”.
وكثرت المستشفيات والمنشآت الصحية بمدنالأندلس، ذكر بعض الباحثين أن مدينةقرطبةكان بها خمسون مستشفى، وقفها وأنفق عليها الخلفاء والأمراء والموسرون[5].
ونهضت الأوقاف بالرعاية الصحية فيالمغربالأقصى كذلك، وأقيمت مستشفيات كبيرة في أهم المدن وتحدث عنها المؤرخون بإسهاب، من أهمها مستشفى سيدي فرج بفاس أسسه السلطان يوسف بن يعقوب المريني ووقف عليه عقارات كثيرة برسم النفقة عليه والعناية بالمرضى.
ومن طريف ما ذكره المؤرخون أن جزءا من أوقافه كان مخصصا لعلاج طير اللقلاق، وجزءا للموسيقيين الذين يزورونه مرة كل أسبوع للترفيه عن المرضى، ويذكر المؤرخون مستشفى آخر بمدينة مراكش أنشأهالمنصور الموحدي[6].
المراكز الصحية
وهي مراكز طبية تعنى بتقديم الخدمات الصحية لأهل حي واحد، وكانت تقام بجوار المساجد، أو قرب الجامع الكبير.
المستوصفات المتنقلة
وهي نوعان:
الأول: عبارة عن فرق طبية متنقلة ترسل إلى الأماكن النائية في القرى والأرياف لتفقد الأحوال الصحية للسكان وعلاج المرضى، ويكثر هذا النوع في أوقات انتشار الأوبئة.
الثاني: عبارة عن مستشفيات عسكرية، تنتقل مع الجيش الإسلامي وقت الحرب.
مستشفيات السجون
وهي مستوصفات ملحقة بإدارة السجن؛ لتقديم الخدمات الصحية الضرورية للمساجين والعناية بهم.
المستشفيات المتخصصة
وإلى جانب الأنواع المتقدمة، أنشأ المسلمون مستشفيات خاصة ببعض الأمراض، ومنها مستشفى الجذام الذي يجمع فيها المجذومون ويعزلون عن المجتمع؛ كي لا ينتشر داؤهم إلى غيرهم؛ ومنها مستشفيات المجانين، التي أفردت لعلاج هذا الصنف من المرضى سريريا ونفسيا.
ويجب أن نشير إلى أن الخدمات الصحية التي تقدمها هذه المراكز الطبية من العلاج والعمليات والأدوية والطعام كانت مجانا بفضل الأوقاف التي كان المسلمون يرصدونها لهذه الأغراض الإنسانية، إذ كانت الرعاية الصحية في سائر البلاد الإسلامية إلى وقت قريب من أعمال البر والخير، ولم تكن هناك وزارات خاصة للصحة العمومية كما في العصر الحاضر.
الأوقاف وعلوم الطب
وكان للأوقاف أثر حميد على النهوض بعلومالطب، لأن دور المستشفيات التي ينفق عليها من الأوقاف لم يكن يقتصر على تقديم العلاج، بل يتعدى ذلك إلى تدريس الطب، وكانت تخصص قاعات داخل المستشفيات الكبيرة للدروس والمحاضرات.