الأربعاء 1 محرم 1436هـ 13 أكتوبر 2015م
أعادني خبر تأسيس هيئة مستقلة للأوقاف للأيام المبكرة في حياتي الدراسية عندما كنا نتباهى بالخط الجميل. فقد كشف الشيخ صالح آل الشيخ وزير الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد عن أن شهر رمضان الجاري سيشهد الإعلان رسمياً عن تأسيس هيئة مستقلة للأوقاف، وفصل إدارتها عن وزارته؛ بحيث يكون المشرف عليها محافظا بمرتبة وزير.
وهذا الخبر يعكس التحول الكبير في أهمية الوقف في مجتمعنا. ففي الأيام الخوالي الذي اعادني لها الخبر حيث كنت احرص مع بعض إخوتي على كتابة التقارير الميدانية التي كان الوالد يرحمه الله يرفعها لوزارة الحج والأوقاف آنذاك. وكان الوالد مراقبا ميدانيا يكتب بلغة الناس لا بلغة المدرسة. فكنا نتعلم منه الكثير من الثقافة المحلية. فأول مرة تدخل في قاموسي مفردة “ودك” او “الودس” من احد تلك التقارير، وهو زيت من الشحم الحيواني وهو معروف في الثقافة العربية وبل وفي السودان يضاف له مواد اخرى يتحول بعدها لزيت “الكركار” لتنعيم الشعر.
وفي ذلك التقرير ان احد الموسرين اوقف “وزنتين ودك” لسراج المسجد. وغيرها من الاشياء الحياتية البسيطة التي كان الوقف يصب في مصلحة تحقيقها مثل خدمة الصائمين والمعتكفين وفرش المسجد وغيرها من الخدمات المرتبطة بالمسجد.
ومع تقدم الايام قرأت في بعض الوثائق التي تشير الى ابداع في الوقف العلمي حيث اوقفت بعض اميرات الاسرة الحاكمة بعض الكتب في المساجد لطلاب العلم. والمتأمل اليوم مع وقف هائل في المملكة العربية السعودية يستوجب تنظيما محكما بل وحوكمة وشفافية مطلقة حتى لا يفقد الناس ثقتهم بالوقف بل وحتى لا يتحول الى مرتع من مراتع الفساد.
فهناك ما يقارب مئة وثلاثين الف عقار وقفي مسجل او معروف في المملكة. وهناك آلاف العقارات غير المعروفة او التي لا تزال تدار وفق قواعد الوقف الذري وقد انقطع بعض ذرية اهل الوقف.
ولعل المطلع على وقف الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه- في مكة المكرمة يدرك حجم الوقف وأهميته ووجوده في مكة المكرمة. ولذلك اطلق الوزير خبر تأسيس الهيئة من مكة وفي وسط تجار ونظار اوقاف مكة لما لتلك المدينة المقدسة من شأن عظيم في تاريخ الوقف الاسلامي.
ولكن هذا الوقف سار بطريقة تقليدية الى ان بدأت حكومة المملكة العربية السعودية بوضع البنية التحتية لمشروعات التوسعة ونزع الكثير من العقارات لصالح المسلمين. وعندها وجهت جهودها لإعادة الوقف. ولأهمية الوقف نجد أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز كان سباقا لدعم فكرة الوقف العلمي بجامعة الملك سعود، بل ويرأس المجلس الوقفي للجامعة في سبيل خدمة العلم وخدمة المجتمع. واصبح وقف الجامعة من ابرز النماذج المحلية بعد اخذ الغرب فكرة الوقف العلمي وطورها في نماذج عالمية مثل جامعتي هارفارد وييل. وتلت تلك الخطوة بقية الجامعات السعودية.
بل إن الوزير آل الشيخ اشار الى أن وزارته ايضا سعت الى إنشاء عدد من الصناديق الوقفية منها العلمي والصحي، ووصلت تلك الصناديق الى (12) صندوقا وقفيا. بل إن الدراسات تشير الى تحرك الغرف التجارية السعودية نحو دراسة تأسيس الشركات الوقفية والتي تدار بأهداف ربحية ولكن الارباح تنفق في الاوجه الخيرية. وهذا النهج الإبداعي في الوقف ارجو ألا ينسينا الوجه الانساني والحضاري للوقف وهو التعامل الحسن.
فأوقاف المسلمين بنيت في الاصل على التعامل الحسن مع الانسان ومع كل ذي كبد رطبة. ففي الشام مثلا تم تخصيص قطعة ارض معشوشبة باسم “مرجة الحشيش” للحيوانات المسنة كالخيول التي يتم قتلها في الغرب باسم الشفقة والرحمة.
بل وكان هناك مدرسة عرفت باسم “مدرسة القطط” لقيام بعض منسوبيها واهل الحي بوضع الطعام للقطط. أربعة عشر قرنا مرت على تاريخنا الاسلامي فأبدعنا كثيرا وأخفقنا كثيرا، لعل في أفق الاوقاف ما يفتح ويؤسس لنوافذ رعاية الابداع الوقفي ومكافأة من يقدم الافكار لا أن نستخف بمن يفكر معنا. فالنار من مستصغر الشرر، وشركات اليوم العملاقة هي ايضا من مستصغر الافكار احيانا.
تقول اوبرا وينفري مقدمة البرامج الأميركية العالمية والتي اصبحت من رموز المتبرعين في الوقف التعليمي في افريقيا تقول: لكي احقق النجاح كنت افكر في اهمية النجاح في الخطوة الصغيرة التي اقوم بها. فقصص النجاحات الصغيرة هي التي ترسم صورة النجاح الكبرى.
أسأل الله ان يعيد الأمن ل “مرجة الحشيش” في الشام قبل أن تلحق الحيوانات هناك بآلاف النازحين الذين فروا من جرائم نظام الاسد، والذي قضى على الأخضر واليابس هناك.