شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

مشروعيةُ الوقف والحكمةُ منه

images.jpg

images.jpg

 

الاثنين 24 جمادى الآخرة 1439هـ الموافق 12 مارس 2018م

إنّ مما يقرب العبد إلى ربه -تبارك وتعالى- بذل المعروف والخير والإحسان للناس، يقول – سبحانه -: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: ١٩٥].

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: «يأمر – تعالى – عباده بالنفقة في سبيله، وهو إخراج الأموال في الطّرق الموصلة إلى الله، وهي كلُ طرق الخير، من صدقة على مسكين، أو قريب، أو إنفاق على من تجب مؤنته، ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان، أمر بالإحسان عموما فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان؛ لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم»(1).

وإنّ من أعظم صور الإحسان إلى الخلق الوقف في سبيل الله – تعالى – وهو عمل صالح وقربة حسنة يستمرّ أجرها ويدوم نفعها ـ بإذن الله ـ..

ولقد جاءت شريعة الإسلام بالحث على الوقف وهو حبس المال في سبيل الله وتسبيل منفعته ليستفيد منه المسلمون، وجميع الآيات الدّالة على فضل الصّدقة والحثّ عليها هي دالّة من باب اللّزوم على فضل الوقف فهو من أرجى الصدقات وأعظمها نفعاومن الآيات قوله – تعالى -: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: ٩٢]، وقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٢٨٠]، وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: ٢٤٥].

كما جاءت أحاديث نبوية عديدة تحثّ على هذا الباب من الخير وتأمر به وترغّب فيه، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(2)ومن العلماء من فسّر الصدقة الجارية بالوقف على التخصيص منهم النووي رحمه الله؛ لأن الصدقة الجارية مما لا ينقطع أجرها، ولا يمكن جريان الصدقة إلا بحبسها، والحبس مندوب إليه، وعقب الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث فقال:(وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه)(3)أ.هـ.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبع يجري للعبد أجرهنّ وهو في قبره بعد موته:من عَلّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته»(4). وتأمل – أخي المسلم –مليّا هذه الأعمال، واحرص على أن يكون لك منها حظّ ونصيب ما دمت في دار الإمهال، وبادر إليها أشدّ المبادرة قبل أن تنقضي الأعمار وتتصرم الآجال.

زيادةُ المرءِ في دنياه نقصانُ *** وربحُه غيرَ محضِ الخير خسرانُ

أَحْسِنْ إلى النَّاسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهم *** فطالما استعبدَ الإنسان إِحسانُ

مَن جادَ بالمالِ مالَ النَّاسُ قاطبةً *** إليه والمالُ للإنسانِ فتَّانُ

أَحْسِنْ إذا كان إمكانٌ ومَقْدِرَةٌ *** فلن يدومَ على الإنسان إِمـكانُ (5)

وهاهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسابقون إلى هذا الخير، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: «إن شئت حبّست أصلها، وتصدّقت بها» قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول(6).

والوقف في سبيل الله تغلب على شهوة حبّ المال، وانتصار على النفس في إلزامها ببذل المال لله – تعالى- وابتغاء الأجر منه، فهو تزكية للنفس ورفعة لها قال -سبحانه-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: ١٠٣]، وإن تزكية النفوس من أعظم ما دعا إليه الإسلام بعد التحذير من الشرك، لذا فقد أقسم الله – سبحانه وتعالى – في كتابه في سورة الشمس بأحد عشر قسما على أمر واحد وهو تزكية النفس، قال – سبحانه -: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: ١ – ١٠].

ومن حكم الوقف العظيمة القيام بحاجة المسلمين، وسدّ خلتهم، ورفع المنّة عنهم، فالواقف في سبيل الله تخلّى عن ماله لينفع إخوانه ويرفعهم ويعزهم، فهذا واقف على بيت لله بناه فصلّى فيه عباد الله، وهذا وقَفَ سكنا لأبناء السبيل أو للأرامل والأيتام والمعوزين، وهذا وقَفَ مشفى يتعالج فيه من لا يجد قيمة العلاج والدواء من أبناء المسلمين، وذاك ساهم في بناء وقف للدعوة إلى الله – تعالى – ورعاية المسلمين الجدد وتأليف قلوبهم وترغيبهم في الإسلام، وهذا وقف بعض ماله في عقار يدرّ على حلقات تعليم القرآن الكريم وتحفيظه أو تعليم العلوم الشرعية والقيام على طلبة العلم أو طباعة الكتب، وهكذا… فإن الوقف في الإسلام يحي روح التّكافل ويعزّز أواصر الأخوة، ويؤكّد على معاني الاجتماع والألفة والمحبّة وزرع الأخلاق الإسلامية الحميدة بين أبناء المجتمع المسلم.

ومع مرور الزّمان بدأت تظهر للمسلمين القيمة الحقيقية للأوقاف إذ إنها ساعدت بل أسهمت بدور حيوي في حلّ المشاكل التي واجهت أمة الإسلام عبر تاريخها الحضاري الطويل، حتى وقفت الأوقاف سدّا منيعا وحجابا حاجزا أمام العدو الخارجي وأمام الجهل والفقر والضّعف، ومن أبرز الأوقاف التي كان لها هذا الدور الرّائد في العصر الحديث جامع الأزهر حيث قام بدور عظيم ومؤثّر أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1376هـ1956م، ولم يقف دوره على إصدار البيانات المتلاحقة أثناء العدوان فقط، بل قام شيخ الجامع الأزهر في حينه الشيخ عبد الرحمن تاج رحمه الله بمراسلة ملوك ورؤساء عدد من الدول في الشرق والغرب من أجل القيام بعمل حاسم لإنجاز سحب قوات العدو فورًا من مصر، وليس هذا فحسب بل كان الأزهر يقوم بجمع التبرعات وإرسال الكتائب من طلبة الأزهر وعلمائه إلى ميادين القتال للتطوع في الجيش، كما كان دوره فعّالا ومؤثّرا في الميدان الثّقافيّ لتعبئة النفوس وتهيئتها لخوض المعارك والاستهانة بالتضحية بالنفس في سبيل الله؛ لأجل تبصير الناس بأحكام الدين وما شرعه للمسلمين في هذه المواقف، وما أُعدّ للمجاهدين من أجل دينهم وأوطانهم وحرماتهم من موفور الجزاء في العاجل والآجل(7).

وهكذا فإن أدوار الأوقاف الإسلامية لا تنحصر في الجوانب العبادية المحضة أو الاجتماعية بل تتعدى ذلك إلى ميادين السياسة والجهاد في سبيل الله.

المصدر: موقع المسلم