الوقف في سبيل الله باب عظيم من أبواب الخير فهو من أرجى الصدقات وأعظمها وأكثرها دواما واستمرارا، ولقى الوقف الإسلامي إقبالا كبيراً من المسلمين ورغبة في المشاركة في صوره ووسائله، وهذا هو المشهد العام ولله الحمد والمنة، إلا أنه يلاحظ من بعض المسلمين عزوف عن الوقف وترك له في الأزمان المتأخرة، ولعل من أبلغ أسباب ذلك:
الإقبال على الدنيا والغفلة عن الأخرة وتقديم الفانية على الباقية قال- تعالى – ذاما أهل هذا المسلك: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: ١٦ – ١٧].
وَغُرورُ دُنْياكَ التي تَسْعَى لها *** دارٌ حَقِـيقَتُها مــتاعٌ يَذْهَبُ
والليلُ فاعلم والنهارُ كلاهما *** أَنْفَاسُــنا فيها تُعَدُّ وَتُحْسَـبُ
وجميعُ ما حَصَّلْتَهُ وَجَــمَعـْتَهُ *** حَقًّا يَقِينا بَعْدَ مَـوْتِكَ يُنْهَبُ
تَبًّا لــدارٍ لا يَدُومُ نَعــــيمُها *** ومَشيدها عما قليلٍٍ يخرب(1)
ومن أسباب العزوف عن الوقف بعض التصورات والاعتقادات الخاطئة كتخوف بعض المسلمين من تسلّط الجهات الرسمية على الأوقاف ووضع يدها عليها، وهذا التصور وإن كان ينطبق على بعض بلاد المسلمين إلا أن أغلب البلاد ومنها بلادنا – حرسها الله – في منأى عن مثل ذلك بل نصّت الأنظمة واللوائح للأوقاف على عدم تدخل الدولة أو الجهات الرسمية في الأوقاف مالم يحدث لها تعثّر أو إهمال وتفريط حماية لها وحفظاً(2).
ومن أسباب العزوف عن الأوقاف – أيضا – خوف بعضهم من أن يفتقر في المستقبل ويتصور أنه يفوت عليه الانتفاع بالوقف في حال الحياة والصحيح هو أنه يجوز للواقف اشتراط أن ينتفع هو وذريته من ريع الوقف في حال الحياة بمأكل ومشرب ومركب ومسكن وإهداء ونحو ذلك.
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الواقفين ممن أنعم الله عليهم بالخير الوفير أنه – ومع ما عنده من الخير والأموال الطائلة – إذا رغب في الوقف جعل وقفه على ذريته، وحرم منه غيرهم من أهل الحاجات، وربما اختلفت الذرية بعد ذلك في هذا المال وتنازعوا عليه، بل ربما تقاسموه وتوارثوه – والله المستعان – كما هو حاصل في كثير من الأوقاف الذريّة القديمة.
ومن الأخطاء الفادحة أن يكون الإنسان ضعيف الحال أو ذا حاجة وعيال ثم يوقف ماله كلّه أو سكنه الذي لا يجد غيره، ويضيّع أهله ومن يعول، وقد قال الله عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: ٩] وقال صلى الله عليه وسلم: «كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت»(3).
وفي الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: «لا» فقلت: بالشطر(4)؟ فقال: «لا» ثم قال: «الثلث والثلث كبير – أو كثير – إنك أن تَذرَ ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل فيِِِِ في امرأتك » فقلت: يا رسول الله، أُخلّف بعد أصحابي(5)؟ قال: «إنك لن تخلّف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة، ثم لعلك أن تخلّف حتى ينتفع بك أقوام، ويُضر بك آخرون(6) اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابهم.. » (7).
فتأمل كيف عبّر له صلى الله عليه وسلم بلفظ الورثة ولم يقل أن تدع ابنتك، مع أنه لم يكن له يومئذ إلا ابنة واحدة لأنه صلى الله عليه وسلم اطلع على أن سعدا سيعيش ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة فكان كذلك ووُلد له بعد ذلك أربعة بنينَ(8) منهم راوي الحديث وهو عامر بن سعد رحمه الله، ويؤخذ من هذا الحديث أنه يجب على المسلم أن يّحسن الظن بربه سبحانه وتعالى، ويثق بوعده ويؤمن بقضائه وقدره.
ومن الأخطاء أن يوقف المسلم لله – تعالى – مالا أو عقارا ثم لا يثبته لدى المحاكم الشرعية، ولا يشهد عليه أو لا يحدد المال أو العقار الموقوف مما يتسبب في الخلاف بعد وفاته في هذا المال الموقوف، وربما لم يُثبت هذا الوقف فيتقاسمه الورثة جهلا منهم أو إهمالا أو تقصيرا وتفريطا، والله المستعان.
ومن أبرز الأخطاء أن يجعل الواقف مال الوقف في نسبة مشاعة في أملاكه مما يتسبب في تأخير إثبات الوقف، وتخليصه من تركته في حال حياته أو بعد مماته، والأولى أن يوقف أعيانا محددة معلومة كمصنع أو مزرعة أو شركة أو عمارة ونحو ذلك.
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الواقفين أنهم لا يحددون المصارف لأوقافهم، مما يجعلها خاضعة لاجتهاد الناظر، وربما فرّط في ضبط ذلك أو قصّر أو تدخل بعض الورثة فصرفوا الوقف من خيريّ إلى ذرّي ونحو ذلك.
ومن الأخطاء ألّا يحدد الواقف أجرة لناظر الوقف مما قد يتسبب في فوات بعض مصالح الوقف وعدم التفات الناظر إليه أو انشغاله عنه بمصالحه الخاصة أو أن يطمع الناظر فيأخذ فوق ما يستحقه، والأولى أن يحدّد نسبة أو مبلغا ثابتا بالمعروف(9) يعين الناظر على القيام بالواجب وأداء الأمانة كما أمر الله تبارك وتعالى.
ومن الأخطاء أن يتساهل الناظر في حق الوقف فيبخسه ثمنه ولا يؤجره بالأجرة المعتادة كأجرة المثل أو يتساهل مع من يتعدى على حقوق الوقف ويأخذ شيئا منها، والواجب الاحتساب على الأوقاف ورعايتها والاهتمام بها وصيانتها وإبلاغ الجهات الرسمية على من يعتدي عليها أو يأخذ شيئا من ريعها بدون وجه حق.
ومن الأخطاء الشائعة أن يقوم الناظر بالإفادة من ريع الأوقاف بطريق غير مباشر كمحاباته لأحد من أقاربه أو أصحابه، والحقّ أن يمنع من هذه التصرفات سداً للذّريعة وتحوّطا لمال الوقف.
ومن الأخطاء أن يستدين الناظر على الوقف أو أن يرهن الوقف أو أي عين من أعيانه، لأن هذا التصرف قد يتسبب في ضياع أملاك الوقف وتعطيلها أو يعرضها للمخاطرة مما يؤدي بها إلى الخسارة والنقص أو التلف.
وبالجملة فعلى الواقفين ونظار الأوقاف أن يسعوا جاهدين في طلب العلم ومعرفة أحكام الوقف وما يتعلق به من مسائل حتى لا يقعوا في المحاذير والمخالفات الشرعية وحتى يقوموا على الوقف بأحسن الأساليب وأنفع الطرق.
______________________________
(1) الأبيات لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2) ينظر: نظام هيئة الأوقاف في المملكة العربية السعودية.
(3) أخرجه أبو داود (1692)، والنسائي في «الكبرى» (9131 – 9133) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، وحسنه الألباني وأخرجه مسلم (996) بلفظ: «كفي بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته»
(4) الشطر: النصف.
(5) أُخلّف بعد أصحابي: أبقى في مكة وينصرف معك أصحابي من المهاجرين وكان مرضه في مكة.
(6) ويُضر بك آخرون أي: الكفار الهالكون على يديك.
(7) أخرجه البخاري (1295)، مسلم (1628).
(8) ينظر: فتح الباري لابن حجر(5/365).
(9) أي: ما يتوافق مع العرف السائد في بلده.