الثلاثاء 28 شوال 1437هـ 2 أغسطس 2016م
كان الصحابة رضي الله عنهم أسرع الناس إلى الخيرات، تركوا الأوطان والأموال والأهل والخلّان، من أجل هذا الدين، لم يبخلوا بأنفسهم وأموالهم، بل نصروا الدين بالنفس والنفيس.
والجبن والبخل صنوان، فالأول بخل بالنفس، والثاني بخل بالمال، وقد استعاذ منهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»(1)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا جاء الكتاب والسنة بذم البخل والجبن، ومدح الشجاعة والسماحة في سبيله دون ما ليس في سبيله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ»(2)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن سَيدُكُم يَا بَني سَلِمَةَ؟» فقالوا: جُدُّ بْنُ قَيسٍ، عَلى أنَّا نُبَخِّلُهُ. قَالَ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدوَى مِنَ البُخلِ!»(3)، فجعل البخل من أعظم الأمراض. ا.هـ(4).
وقد ذكر أصحاب السير والحديث وغيرهم أن كل من كان له مال من الصحابة رضي الله عنهم وقف وقفًا، سواء كان وقفًا ذريًا، أم خيريًا، ومنها(5):
1 ـــ أوقاف أبى بكر الصديق رضي الله عنه:
قال الخصَّاف: «رُويَ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حبس رباعًا له كانت بمكة وتركها، فلا يعلم أنها ورثت عنه، ولكن يسكنها من حضر من ولده وولد ولده ونسله بمكة، ولم يتوارثوها»(6).
وقال البيهقي: «قال الحُمَيْدي: وَتَصَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه بِدَارِهِ بِمَكَّةَ عَلَى وَلَدِهِ، فَهِيَ إِلَى الْيَوْمِ (زمن الحُمَيْدي)»(7).
2 ـــ أوقاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
1- قد تقدم وقفه رضي الله عنه ماله بخيبر.
2-قال البيهقي: «قال الحُمَيْدي: وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِرُبُعِهِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَبِالثَّنِيَةِ عَلَى وَلَدِهِ، فَهِيَ إِلَى الْيَوْمِ(زمن الحُمَيْدي)»(8).
3 ـــ وقف عثمان بن عفان رضي الله عنه:
جاء في صحيح البخاري تعليقًا أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ، فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ المُسْلِمِينَ»، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه(9).
وفي رواية: «أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه حِينَ حُوصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ، وَلاَ أَنْشُدُ إِلَّا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ»؟ فَحَفَرْتُهَا»(10).
4 ـــ أوقاف على أبى طالب رضي الله عنه:
قال البيهقي: «قال الحُمَيْدي: وَتَصَدَّقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِأَرْضِهِ بِيَنْبُعَ، فَهِيَ إِلَى الْيَوْمِ (زمن الحُمَيْدي)»(11).
وله عيون متفرقة كثيرة، وقفها رضي الله عنه على المساكين والمحتاجين، ذكرها ابن شبة في كتابه «تاريخ المدينة»، تركنا ذكرها هنا خشية الإطالة.
5 ـــ أوقاف سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه:
قال البيهقي: «قال الحُمَيْدي: وَتَصَدَّقَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه بِدَارِهِ بِالْمَدِينَةِ وَبِدَارِهِ بِمِصْرَ عَلَى وَلَدِهِ، فَذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ(زمن الحُمَيْدي)»(12).
ورَوَى الخصَّاف بسنده إلى عائشة بنت سعد رضي الله عنها قالت: «صدقة أبي حبس، لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، وأن للمردودة من ولده أن تسكن غير مضرَّة ولا مضر بها حتى تستغني. فتكلم فيها بعض ورثته فجعلوها ميراثًا، فاختصموا إلى مروان بن الحكم (أمير المدينة في عصره)، فجمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذها على ما صنع سعد رضي الله عنه(13)، أي: وقفًا».
6 ـــ أوقاف الزبير بن العوام رضي الله عنه:
قال البخاري: «وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ رضي الله عنه بِدُورِهِ، وَقَالَ: لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلاَ مُضَرٍّ بِهَا، فَإِنِ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ»(14).
وقال البيهقي: «قال الحُمَيْدي: وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رضي الله عنه بِدَارِهِ بِمَكَّةَ فِي الْحَرَامِيَّةِ، وَدَارِهِ بِمِصْرَ، وَأَمْوَالِهِ بِالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَدِهِ، فَذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ (زمن الحُمَيْدي)»(15).
7 ـــ وقف عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
وأوقَفَ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما داره، قال البخاري: «وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِي الحَاجَةِ مِنْ آلِ عَبْدِ الله»(16).
8 ـــ وقف زيد بن ثابت رضي الله عنه:
وحَبَسَ زَيْدُ بْن ثَابِتٍ رضي الله عنه دَارَهُ الَّتِي فِي الْبَقِيعِ، وَدَارَهُ الَّتِي عِنْدَ الْمَسْجِدِ(17).
9 ـــ أوقاف عمرو بن العاص رضي الله عنه:
قال البيهقي: «قال الحُمَيْدي: وَتَصَدَّقََ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه بِالْوَهْطِ(أرضه) مِنَ الطَّائِفِ وَدَارِهِ بِمَكَّةَ عَلَى وَلَدِهِ، فَذَلِكَ إِلَى الْيَوْم ِ(زمن الحُمَيْدي)»(18).
10 ـــ وقف خالد بن الوليد رضي الله عنه:
روى الخصَّاف بسنده أن خالد بن الوليد رضي الله عنه حبس داره بالمدينة لا تباع، ولا تورث(19).
ووقفه المنقول مشهور، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «وَأَمَّا خَالِدٌ: فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ الله»(20).
11 ـــ وقف حكيم بن حزام رضي الله عنه:
ذكر ابن شبة «أَنَّهُ رضي الله عنه حَبَسَ دَارَهُ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ»(21).
12 ـــ وقف أنس بن مالك رضي الله عنه:
وأوقف أنس رضي الله عنه دارًا له بالمدينة المنورة، قال البخاري: «أَوْقَفَ أَنَسٌ دَارًا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا»(22).
13 ـــ وقف أبى هريرة رضي الله عنه:
وروى ابن شبة بسنده إلى نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: «شَهِدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه تَصَدَّقَ بِدَارِهِ حَبِيسًا»(23).
14 ـــ وقف عائشة رضي الله عنها:
روى الخصاف بسنده إلى هاشم بن أحمد: «أن عائشة رضي الله عنها اشترت دارًا، وكتبت في شرائها: إني اشتريت دارًا، وجعلتها لما اشتريتها له، فمنها مسكن لفلان ولِعَقبه ما بقى بعده إنسان، ومسكن لفلان (وليس فيه: ولِعَقبه)، ثم يرد بعد ذلك إلى آل أبى بكر».
15 ـــ وقف أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها:
روى الخصاف بسنده: «أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تصدقت بدارها صدقة حبس لا تباع ولا توهب ولا تورث»(24).
16 ـــ وقف أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم:
روى الخصّاف بسنده عن موسى بن يعقوب عن عمّته عن أبيها قال: «شهدت صدقة أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم صدقة حبسًا لا تُباع ولا تُوهب»(25).
17 ـــ وقف أم حبيبة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم:
روى الخصّاف بسنده إلى عبدالله بن بشر: «قال: قرأت صدقة أم حبيبة بنت أبى سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي بالغابة، أنها تصدقت على مواليها، وأعقابهم، وعلى أعقاب أعقابهم، حبسًا لاتباع ولا توهب ولا تورث تخاصم من يورثها فانفذت» (26).
18 ـــ وقف صفية رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم:
روى الخصّاف بسنده إلى منبت المزنى قال: «شهدت صدقة صفية بنت حُيَيْ رضي الله عنها بدارها لبني عبدان صدقة حبسًا لاتباع ولا تورث حتى يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها» (27).
19 ـــ وقف جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه:
روى الخصّاف بسنده إلى سالم مولى ثابت عن عمرو بن عبدالله العبسي قال: دخلت على محمد بن جابر بن عبدالله في بيت له، فقلت: حائطك الذي في موضع كذا وكذا، قال: «ذلك حبس عن أبي جابر، لا يباع ولا يوهب ولا يورث» (28).
20 ـــ وقف سعد بن عبادة رضي الله عنه:
روى الخصّاف بسنده قال يحيى بن عبدالعزيز عن أهله: «أن سعد بن عبادة رضي الله عنه تصدق بصدقة عن أمه فيها سقى الماء، ثم حبس عليها مالًا من أمواله، على أصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث»(29).
21 ـــ وقف عقبة بن عامر رضي الله عنه:
روى الخصّاف بسنده إلى أبي سعاد الجهني قال: «أشهدني عقبة بن عامر رضي الله عنه على دارٍ تصدق بها، حبسًا لاتباع ولا توهب ولا تورث، على ولده وولد ولده، فإذا انقرضوا إلى أقرب الناس مني، حتى يرث الله الأرض ومن عليها» (30).
22 ـــ وقف أبي أروى الدوسي رضي الله عنه:
روى الخصّاف بسنده إلى أبي مسورة قال: «شهدت أبا أروى الدوسي رضي الله عنه تصدق بأرض لاتباع ولا تورث أبدًا»(31).
وهذه الأسانيد وإن كانت لا تصفو من كدر، إلا أنّ شهرتها تغني عن صحة آحاد أسانيدها.
فهؤلاء هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم وأرضاهم، هم الأسوة، وإليهم يرجع مبتغي القدوة.
فيا عبد الله، أرعني سمعك، أهمس إليك كليمات مختصرات:
– قدم لنفسك وقفًا قلّ أو كثر؛ لتصفّ في مصافّ أولئك الصالحين الأبرار، الذين ما كان منهم أحد ذو مقدرة إلا وقف.
– لا تسوّف، فالموت أسرع، وربّ مسوف اختطفته المنايا قبل إنفاذ ما أراد.
هل تريد: البرهان على صدق الإيمان، وإطفاء غضب الرحمن، والشفاء من عصيّ الأسقام، والوقاية من مصارع السوء، والميتات المشينة؟
هل تريد الاستظلال في الظل يوم العرض، يوم يبلغ العرق من الناس مبلغًا عظيمًا؟
هل تريد الخير بحذافيره، والأجور العظيمة؟
كلّ ذلك تجده إن صدقت الله في الوقف، فشمر فإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.
والواجب على من شرح الله صدره للوقف الانتباه لما يأتي:
1- إحضار النية الصادقة الصالحة، بأن يكون وقفه إيمانًا واحتسابًا، لا رياءً ولا سمعة، فإنما الأعمال بالنيات، وفي الصحيح: «أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة… وذكر منهم منفقًا جوادًا أنفق ليقال جواد فيسحب في النار على وجهه»(32)، فما أغنى عن المسكين كلمة «يقال وقد قيل»، فليحذر المؤمن من أن يكون حظه من نفقته ووقفه «فقد قيل»!
2- استشارة أولي العلم والخبرة، العلم بأحكام الأوقاف، والخبرة باستراتيجياته وشؤونه الواقعية، من القضاة والدعاة والعاملين في الجهات الخيرية ومراكز الاستشارات التي تُعنى بأحكام الوقف؛ فإنهم لعلمهم وخبرتهم لابدَّ وأن يضفوا على تصور مريد الوقف معلومات لا يدركها وربنا جل وعلا يقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وفي استشارة عمر وأبي طلحة رضي الله عنهمام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوضح ذلك ويؤكده(33).
3- أن يتخير لوقفه من أحسن ماله، وأنفسه عنده، فإن إخراج العبدُ من أحسن ماله دليل صدقه، وبرهان ثقته بمعاملة ربه الجواد، وقد جعل سبحانه وتعالى البرّ درجة لا تنال إلا بالإنفاق من المحبوب، الذي تتعلق النفوس به، وتتشوف إليه فقال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فقطع الطريق على مدعي البرّ حتى يبرهن على صدقه بإنفاقه من المحبوب، فإن فعل ذلك فهو صادق حقًّا، نال البرَّ وصار من أهله وذويه.
فيا أيها الواقف ويا أيها المنفق! دونك باب البرّ فلجْه، وأمامك حوض الأجر فردْه.
4- أن ينظر إلى حاجة الناس إلى وقفه، ويتلمس ما هم له أحوج، وله أشوف، فيبادر به: فإذا رأى انتفاع الناس وحاجتهم إلى مسجد أكثر من غيره سارع به، وإن رأى كثرة المساجد وحاجة الناس إلى ماء سعى في حفر بئرٍ وبادر إلى ذلك، وهكذا في غيرهما.
وليهتم بالوقف على أهل العلم وطلبته الذين تفرغوا لتفقيه الأمة ورفع الجهل عنها؛ فإن حاجة الأمم إليهم توازي حاجتها إلى الطعام والشراب بل حاجتها إلى الهواء.
فليكن فقيه النفس، ثاقب النظرة، واسع المدارك، فربّما وقف الرجل وقفًا حسنًا وكان غيره أولى، إما من جهة الزمان أو المكان أو الأعيان، ولما أعتقت ميمونة أم المؤمنين وليدتها وأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «أمّا أنكِ لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك»(34).
فجعل الصدقة بها على الأقارب أعظم أجرًا من العتق المطلق، مع ما جاء في العتق من الأجور العظيمة، والثواب الجزيل؛ وذلك أن المفضول لا يكون مفضولًا دائمًا، ولا الفاضل كذلك، بل قد يعرض للمفضول من العوارض الزمانية أو المكانية أو غيرها ما يجعله فاضلًا(35).