شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

الإشراقات الحضارية الوقف (1)

alt

alt

الأحد 14 شعبان 1434هـ 23 يونيو 2013م

أبدأ اليوم – بإذن الله وتوفيقه – سلسلة جديدة موازية لسلسلة «من منظومة القيم الإسلامية»، وسلسلة ثالثة سأبدأ فيها قريباً باذن الله وهي «سلسلة تربية الأبناء» حتى لا يمل القارئ الكريم من الكتابة في موضوع واحد.

والسلسلة التي سأبدأها اليوم ستكون عن اشراقات الوقف، واتناول فيها بعض ما للوقف من اشراقات انبثقت عن هذا النظام الذي ابدعته الحضارة الاسلامية انطلاقاً من مفهوم «الصدقة الجارية» الذي ارشد اليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه المعروف: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (أخرجه مسلم في صحيحه).

ومن هذا الحديث كانت انطلاقة الوقف وإسهامه البارز في النهضة الحضارية الإسلامية، حيث ساهم في كل مجالات الحياة تقريباً، سواء في المجال الديني، أو الوطني، والعلمي، والثقافي، والصحي، والاجتماعي، والمهني، وغيرها من المجالات.

ومن الطريف أن الوقف قد امتد ليشمل أموراً تعد من الإشراقات الحضارية السابقة للعصر، والتي كان لا يتصور أن يصل إليها الرقي الإنساني في حينها، فتجد على سبيل المثال أن الوقف لم يقتصر على بناء المساجد والبيمارستانات (المستشفيات)، ودور العلم والمكتبات، وحفر الأنهار والآبار لتوفير المياه للناس، وإقامة الجسور والقناطر، بل كانت هناك أوقاف لطيفة أخرى مثل: وقف الآنية المكسورة لتعويض الغلام عن الآنية التي تسبب في كسرها درءاً لغضب سيده، ووقف المجانين، ووقف الكلاب الضالة، ووقف الحليب، ووقف الحادي في السحر لإسماع المرضى في البيمارستانات المدائح النبوية والمواعظ الإيمانية بشكل إنشادي لطيف، وهو ما يسمى حالياً «الموسيقى الشاعرية»، وكذلك وقف المتهامسين لإسماع المريض لرفع معنوياته وكأنه قد تم شفاؤه، ووقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء، ووقف العميان، ووقف المرابطات أو وقف الغضوب (أي الغاضبات من أزواجهن ولا يجدن عائلا ينفق عليهن حتى يصلح الله بينهم!) ووقف تشييد البيوت (الفنادق) لإقامة الغرباء، ووقف فكاك الأسرى، ووقف قصر الفقراء (الذي أُنشئ ليستمتع الفقراء بحياة القصور كالأغنياء)، ووقف الاسماك التي لا تأتي الا مرة واحدة في العام (للمزيد من الاطلاع على الاشراقات الحضارية للوقف: د. راغب السرجاني، روائع الأوقاف في الحضارة الاسلامية).

هذه مجرد نماذج لاشراقات الوقف التي أسهمت في اشراق الحضارة الاسلامية على الكون ما يقرب من 1400 سنة، وكل واحدة منها ــ ومن امثالها ــ تستحق مقالا بذاتها، لما انطوت عليه من دلالات عميقة تكشف عن عمق التكوين الحضاري للمسلمين حتى ضربوا أروع الأمثلة في الرحمة بالإنسان والأسماك والطير والحيوان، وأعملوا عقولهم فأبدعوا سبلاً رائعة لسد حاجات الأغنياء والفقراء على السواء!

ولا تعجب – أخي القارئ وأختي القارئة – من القول إن الوقف قد امتد إشراقه إلى الأغنياء كذلك، إذ كيف ستفسر الوقف الصحي والوقف العلمي مثلاً، فهل كان استخدام المكتبات مقصوراً على الفقراء وحدهم، بل هل كان الوقف قاصراً على سد عوز الفقراء إلى المال والخدمات ولم يسد حاجة الأغنياء إلى تزكية أنفسهم والإسهام في عمران الكون؟!

هذا مجرد غيض من فيض الإشراقات الحضارية الشاملة التي سأستعرض كلاً منها في المجالات المختلفة في هذه السلسلة التي أسأل الله أن ينفع بها في إلقاء الضوء على روعة الوقف وأهميته، كي يسهم في الحاضر والمستقبل كما أسهم في الماضي.

والله المستعان!

المصدر: صحيفة القبس الكويتية.