شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

الأوقاف ودورها في العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة

                      

                     الأوقاف ودورها في العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة

د. رجا المرزوقي

الأوقاف إحدى أهم الأدوات التنموية التي تساعد في تحقيق التنمية المتوازنة وتحقيق أعلى عائد اقتصادي للمجتمع إذا أحسن تنظيمها. وقد كان المسلمون رواد هذه الصناعة والتي كانت في العصور المتعاقبة من أدوات التنمية التي اعتمدت عليها الدول الإسلامية لتلبية احتياجات المجتمع في القرون السابقة، وجزء من الحضارة الإسلامية والعلوم التي برز فيها المسلمون في تلك العصور المشرقة في تاريخ العالم الإسلامي كانت مدعومة بالأوقاف، حيث أسهمت هذه الأوقاف في تطوير كثير من العلوم والتي يجني العالم كله في هذا العصر ثمراتها. وقد تم نقل هذه التجربة في الأوقاف والقطاعات الخيرية (القطاع الثالث) للعالم، حيث نجد أن الأوقاف جزء من عوامل التنمية في الدول الصناعية وأصبحت الأوقاف من أهم دوافع التنمية في الدول الصناعية، بينما في الدول الإسلامية تلاشى دورها حتى أصبح هامشيا ودوره محدود جدا، بل محارب في دول إسلامية أخرى سواء تنظيميا أو أمنيا. إن تقهقر دور الأوقاف انعكس سلبا على التنمية بكل جوانبها في الدول الإسلامية. فأدى ذلك لتخلف التعليم وتراجع دور المسلمين من الريادة في العلوم إلى التبعية، كما أدت إلى زيادة نسبة الفقر ونقص الحاجات الأساسية للمجتمعات الإسلامية. والأوقاف جزء تنموي مهم في القطاع الثالث في الاقتصاد، والقطاع الثالث المقصود به هو جميع الأنشطة التي تنشأ لخدمة المجتمع بدوافع خيرية ولا تهدف للربح.

تهدف الأوقاف إلى خدمة المجتمع، وبالتالي تبحث عما يحقق أعلى منفعة للمجتمع (منفعة اقتصادية واجتماعية) فتنفق عوائد الأوقاف في تحقيق هذه المنفعة وليست المنفعة الشخصية للواقف. كما أنه لا يسعى لتعظيم أرباحه كما هو الحال في القطاع الخاص؛ لذا فإن عائد الأوقاف يستثمر في مشاريع تنموية لا تحقق عوائد مادية أو أنها تحقق عائدا ماديا منخفضا في الأجل القصير، لكنها تحقق عوائد عالية على المجتمع. بل إن الجدوى الاقتصادية من إنشاء الوقف تتأكد بتعظيم المنفعة الاجتماعية لما تم الوقف من أجله؛ ولذا فإن وجود الأوقاف وتنميتها وتهيئة البيئة القانونية والتنظيمية التي تشجع نموها يعد مطلبا اجتماعيا يجب أن تتضافر جميع جهود المجتمع لتحقيقه.

والأوقاف في حالة الاقتصاد السعودي مطلب ضروري ليس فقط لما تم ذكره أعلاه، بل لاعتماد الاقتصاد السعودي على مصدر دخل متقلب حسب السوق الدولية. فالاقتصاد السعودي يعتمد مصدر دخل واحدا يحدد اتجاهات النمو، وهذا يتعرض إلى تقلبات عالية جدا وتذبذبات حسب أسعار النفط في السوق العالمية؛ مما يؤدي إلى تدفق سيولة ضخمة في أوقات الطفرة وإلى شح كبير في السيولة في حالة انخفاض الأسعار العالمية للنفط والتي تنعكس على التنمية إيجابا وسلبا. ففي حالة توافر السيولة وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي يتجه الأفراد والشركات في الإنفاق والمساهمة الاجتماعية؛ مما يسهل معه جمع الأموال لبناء الأوقاف لخدمة المجتمع، حيث استثمار الأصل والاستفادة من عائدها في أوقات الكساد، حيث تمثل الأوقاف استثمارات ثابتة تسهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي والاستفادة منها في أوقات الكساد. فالأوقاف في هذه الحالة تمثل أفضل الآليات لإعادة توزيع الدخل للمجتمع الواحد في سنوات الطفرة ليعم فائدة الطفرة جميع طبقات المجتمع من خلال الأوقاف التي يتم إنفاق ريعها لخدمة المجتمع. كما أن الأوقاف تساعد على توزيع الدخل للجيل الواحد بين سنوات النمو والكساد. يتم جمع الأموال في سنوات الرخاء لبناء الأوقاف والاستفادة منها في أوقات الرخاء والشدة للإنفاق على احتياجات المجتمع الضرورية ذات العائد الاجتماعي المرتفع. ومن خلال الأوقاف يستطيع المجتمع أن يشرك الأجيال المقبلة في العوائد النفطية لهذا الجيل، فما يتم بناؤه من أوقاف في هذا العصر يمتد لأجيال متعاقبة، وهذا يحتم أهمية مساهمة الحكومة من خلال عوائد النفط في المساهمة في بناء الأوقاف وترك إدارتها للقطاع الثالث مع أهمية تنظيمه. ودون مساهمة الحكومة، والتي تملك القطاع النفطي الذي يشكل 45 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، في بناء الأوقاف والمساهمة في بنائها وترك إدارتها للقطاع الثالث (القطاع غير الربحي)، فإن الاقتصاد المحلي يعمل في بناء الأوقاف بنصف إمكاناته.

والحكومة السعودية في حالة الأوقاف يجب أن يكون دورها تنظيميا ورقابيا ودعما مباشرا ومساهمة في أصول الأوقاف لملكية الحكومة لما يعادل 45 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، والذي يحقق أعلى فوائض مالية. وبالتالي فإن إنشاء الأوقاف دون مساهمة حكومية يعني تعطيل ما يعادل 50 في المائة من امكانات الاقتصاد السعودي، وبالتالي لن تعكس هذه الأوقاف امكانات المجتمع الحقيقية؛ ولذا فإن الحكومة في المملكة مطالبة أولا بوضع الأنظمة والقوانين التي تخلق بيئة خصبة لنمو الأوقاف ومراقبة الأداء وضمان الجودة وتطبيق الأنظمة لحفظ الأوقاف وضمان ما أوقفه الواقف (وهذا الذي آمل أن يكون دور هيئة الأوقاف التي تم الإعلان عنها أخيرا) بعيدا عن الإدارة والتملك للأوقاف. كما أن الحكومة بحكم ملكيتها لنصف الاقتصاد مطالبة بالمساهمة في إنشاء الأوقاف وترك إدارتها للسوق والجهات المتخصصة. وبالتالي هذا يخلق اللامركزية في إدارة الأوقاف وتتعدد الأوقاف وتتنوع طرق إدارتها، التي تنعكس على أدائها وكفاءة الأداء بشرط قيام الحكومة بدورها في التنظيم والرقابة على نشاط الأوقاف. وإذا أسهمت الحكومة في إنشاء الأوقاف بتوجيه جزء من الفوائض المالية المتحققة في كل سنة مالية أو تثبيت جزء من الميزانية السنوية، حيث يتم المساهمة في إنشاء أوقاف تعليمية وصحية وخدمية وتمويلية للمشاريع الصغيرة وغيرها من أنواع الأوقاف التنموية. ستسهم الأوقاف في تخفيف العبء المالي على الميزانية في المستقبل لتمويل كثير من الخدمات الاجتماعية من عوائد الأوقاف. وإذا أحسن استخدام وتنظيم وإدارة الأوقاف فإنها من أفضل آليات إعادة توزيع الدخل بين طبقات المجتمع وبين سنوات النمو والكساد وبين الأجيال المتعاقبة لتحقق بذلك أهداف التنمية المستدامة وتقلل الهدر المالي في سنوات الرخاء والشح في السنوات العجاف .

المصدر/ الاقتصادية