ولاية الدولة على شؤون الوقف
الكاتب : د. عصام خلف العنزي
الأربعاء 9 صفر 1434هـ 19 ديسمبر 2012م
اختلفت نظرة الفقهاء في مدى ولاية الدولة على شؤون الوقف تبعا لممارسات الدولة على الوقف، فذهب بعض الفقهاء إلى أن ولاية الدولة على الوقف تعتبر من أهم أسباب القضاء على استقلالية الوقف، واستمراره بل والاستيلاء عليه مما أدى إلى انقطاع هذا المورد الذي كان يمد كثيرا من جهات الخير بالنفع.
فولاية الدولة على الوقف حملت من كانوا يرغبون في الوقف على أن يمسكوا أيديهم عن حبس الأموال، لأنهم يدركون أن الدولة تتصرف في الأموال الموقوفة وريعها وفق ما تريد لا وفق ما يريد الواقفون، كما أن تدخل الدولة وسيطرتها على كل المرافق أثبت فشله في المحافظة على المال العام وفي تحقيق النمو الاقتصادي وزيادة الدخل مما اضطرها إلى الخصخصة، لأن القطاع الخاص أكثر حرصا على المال وتثميرا له من القطاع العام.
وذهب البعض الآخر إلى أن ولاية الدولة على الوقف فيها مصلحة للوقف حيث يستفيد الوقف من قدرات الدولة وما يتاح لها من خبرات وأدوات لإدارة الوقف.
وللوقوف على حقيقة الأمر نقول إن الوقف لم يخل في القديم من ولاية الدولة عليه سواء كان من يمارس هذه الولاية السلطان نفسه أو أن يعهد بها إلى آخرين كالقاضي وغيره من النُظار. يقول الإمام الماوردي: «وأما عن مشارفة السلطان للوقف فإنها على ضربين: عامة، وخاصة، فأما العامة فيبدأ بتصفحها، وإن لم يكن فيها متظلم ليجريها على سبيلها، ويمضيها على شروط واقفها إذا عرفها من أحد ثلاثة أوجه: إما من دواوين الحكام المندوبين لحراسة الأحكام، وإما من دواوين السلطنة على ما جرى فيها من معاملة أو ثبت لها من ذكر وتسمية، وإما من كتب قديمة تقع في النفس صحتها، وإن لم يشهد الشهود بها، لأنه ليس يتعين الخصم فيها، فكان الحكم أوسع منه في الوقوف الخاصة.
وأما الوقوف الخاصة فإن نظره فيها موقوف على تظلم أهلها عند التنازع فيها لوقفها على خصوم معينين، فيعمل عند التشاجر فيها على ما ثبت به الحقوق عند الحاكم، ولا يجوز أن يرجع إلى ديوان السلطنة، ولا إلى ما يثبت من ذكرها في الكتب القديمة، إذا لم يشهد بها شهود معدلون.
فإذا كان لولي الأمر سلطان على نفوس وأموال الرعية الخاصة، ألا يكون له ولاية على أموال الوقف التي وجدت للبر والخير لعامة المسلمين؟! فالوقف وإن كانت بدايته قرارا فرديا إلا أن نفعه عام على الموقوف عليهم مما يمكن الدولة من الإشراف والرقابة عليه، ونصوص الفقهاء تؤكد أن للدولة نظرا وولاية على الوقف سواء كان الناظر الإمام أو من ينيبه الإمام من قضاة أو غيرهم.
فالاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر فردا كان (رئيس دولة مثلا) أو جماعة (مجلس نيابي مثلا) أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها، أو يأمر بالعمل بقول ضعيف مرجوح، أو يمنع بعض العقود أو الأشياء المباحة أصلا إذا اقتضت ذلك مصلحة طارئة، كل ذلك بشرط أن يكون الهدف من هذه التصرفات تحقيق مصالح الجماعة، بمعاييرها الشرعية، لأن من القواعد الشرعية: أن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
وقد يعترض البعض على هذا بأن الفقهاء اختلفوا فيمن له حق الولاية على الوقف ففي ظاهر مذهب الحنفية أن الولاية للواقف ثم لمن يوليه من بعده فإن لم يعين أحدا فهي للقاضي.
أما المالكية فمنعوا الواقف من الولاية بالقدر الذي يتنافى مع الحيازة الصحيحة، ثم تكون الولاية لمن يشترط الواقف له الولاية، فإن أغفل الواقف أمر من يتولاه، فإن كان على غير معين أو على معين لا يملك أمر نفسه، فالولاية للقاضي يولي من يشاء، وإن كان الموقوف عليه معينا مالكا أمر نفسه، فالولاية في الوقف إليه وإلى من يختاره متوليا على الوقف.
وأما عند الشافعية فإن الولاية للواقف لا تثبت إلا بالشرط عند إنشاء الوقف، فإن لم يشترط وجعلها لغيره كانت الولاية لمن شرطت له فإن لم يجعلها لأحد فقد اختلف الشافعية: فريق قال للواقف، لأن النظر يكون له بالشرط، فإذا لم يشترط لغيره فهو لم يسقط حقه لأحد ينبغي له النظر، وفريق قال إنه للموقوف عليه، لأنه صاحب الغلة فهو صاحب الرعاية عليها، والولاية تابعة لها، وفريق قال إنها للحاكم، لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه، وحق من ينتقل إليه الوقف من بعده، فكان الحاكم أحق بولايته، لأنه الحافظ لحق كل من لا يستطيع حفظ حقه، ولأن الولاية على الوقف في هذه الحال شاغرة والحاكم ولي من لا ولي له، وهذا هو الراجح في المذهب الشافعي.
ومذهب الحنابلة قريب من مذهب الشافعية، فالولاية لمن شرطه الواقف له سواء أكان هو أم غيره، فإذا مات من شرطت له الولاية أو لم تشترط لأحد فإن الولاية لا تثبت للواقف بحال إلا أنهم فرقوا بين ما يكون لجهة عامة أو على غير محصورين فإن الولاية في هذا للحاكم، وبين ما إذا كان الوقف على آدمي معين محصور سواء أكان عددا أم واحدا فالنظر للموقوف عليه، لأنه يختص بنفعه، فكان نظره إليه كملكه المطلق، وقيل إن النظر يكون للحاكم.
فكلام الفقهاء هذا يبين أن الولاية للفرد وليس للدولة وإنما الدولة تتولى الوقف عند عدم وجود الفرد، وبالتالي فإن ولاية الدولة ولاية ثانوية وليست أصلية ومما يؤكد هذا أن الفقهاء قد نصوا على أن الولاية الخاصة عند وجودها مقدمة على الولاية العامة، لأنها أقوى منها، كما جاء في القواعد الفقهية: الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة.
فمثلا: متولي الوقف ووصي اليتيم وولي الصغير ولايتهم خاصة، وولاية القاضي بالنسبة إليهم عامة، وأعم منها ولاية إمام المسلمين، فولاية المتولي والوصي أقوى من ولاية القاضي، وولاية القاضي أقوى من ولاية إمام المسلمين، لأن كل ما كان أقل اشتراكا كان أقوى تأثيرا وامتلاكا. فكلما كانت الولاية المرتبطة بشيء مما فوقها في العموم، فتكون الولاية العامة كأنها انفكت عما خصصت له الولاية الخاصة، ولم يبق لها إلا الإشراف، إذ القوة بحسب الخصوصية لا الرتبة. وبناء على هذا الأصل قال الزركشي: ولهذا لا يتصرف القاضي مع وجود الولي الخاص وأهليته.
أقول إن كلام الفقهاء السابق لا ينفي أن الأصل في الولاية للدولة، لأن الواقف لو شرط الولاية لنفسه أو لغيره فإن للحاكم أو للقاضي الحق في إلغاء هذه الولاية إذا لم تكن مستوفية الشروط التي نص عليها الفقهاء كأن يكون الواقف له أهلية التبرع بأن يكون حرا مالكا بالغا عاقلا، وكذا فيما يتعلق بنظار الوقف فإن الدولة تراقبهم وتحاسبهم لمعرفة أن تصرفاتهم موافقة لحكم الشرع وشرط الواقف أم لا.
فالناظر وإن كان له ولاية مباشرة على الوقف إلا أن هذا لا ينفي أن هناك ولاية للدولة على هذا الوقف، يقول الإمام البهوتي «ولا نظر لحاكم مع الناظر، ويتوجه مع حضوره، لكن للحاكم النظر العام فيعترض عليه، أي على الناظر الخاص، إن فعل ما لا يسوغ» وهذا النظر يسمى نظر الإحاطة والرعاية.
فالولاية كما يقسمها الفقهاء إما ولاية عامة كالإمامة الكبرى وولاية القاضي، وإما ولاية خاصة وهي تنقسم إلى ولاية على النفس وولاية على المال ومنها الولاية على نظارة الوقف، إلا أن الفقهاء نصوا على أن الولاية الخاصة تنتقل إلى الولاية العامة عند عدم وجود من يقوم بالولاية الخاصة، لأن السلطان ولي من لا ولي له.
ونص الإمام البهوتي على أن الواقف إذا لم يجعل النظر لأحد عند إنشاء الوقف، وكان الوقف على جهة عامة أو على غير محصورين كالمساجد والقناطر والمساكن، فالولاية إلى حاكم المسلمين، لأنه ليس له متول معين يشرف عليه ويرعاه، وللحاكم أن ينيب فيه من شاء، لأن الحاكم لا يمكنه تولي النظر بنفسه، لتعدد ما أنيط به من واجبات، وألقي في عنقه من تكليفات.
وأما ما يتعلق بأن الولاية الأخص أقوى من الولاية الأعم، فهذا ليس على إطلاقه، لأن للولاية الأعم سلطات ونفوذا أقوى من الولاية الأخص، فصاحب الولاية الأعم له القدرة على عزل صاحب الولاية الأخص، فالولاية الخاصة قد تكون أقوى من وجه، والولاية العامة تكون أقوى من وجه آخر، فمثلا جاء في المذهب الحنفي نقلا عن المولى أبي السعود أنه صدر الأمر السلطاني بعدم نفاذ وقف المدين في القدر الذي يتوقف عليه تسديد الدين من أمواله، قطعا لما يلجأ إليه بعض الناس من وقف أموالهم لتهريبها من وجه الدائنين.
وبناء على الأمر صرح الفقهاء من بعده بعدم نفاذ مثل هذا الوقف شرعا، وقد كانت النصوص في أصل المذهب صريحة في نفاذ وقف المدين ولو كان دينه محيطا بجميع أمواله، لأن الدين إنما يتعلق بذمته لا بعين ماله.
ومنشأ الخلاف في أن هذه الولاية هل هي تفويض أم توكيل؟ فإذا كانت تفويضا فهو بمثابة التمليك، ونازع الإمام السبكي في ذلك واعتبر ذلك توكيلا، وأفتى السبكي بأن للواقف والناظر من جهته عزل المدرس ونحوه إذا لم يكن مشروطا في الوقف ولو لغير مصلحة، واعترض الزركشي وغيره بأنه لا يجوز للإمام إسقاط بعض الأجناد المثبتين في الديوان بغير سبب، فالناظر الخاص أولى، وأجيب بالفرق بأن هؤلاء ربطوا أنفسهم للجهاد الذي هو فرض، ومن ربط نفسه بفرض لا يجوز إخراجه منه بلا سبب بخلاف الوقف فإنه خارج عن فروض الكفايات.
وفي شرح المنهاج في الكلام على عزل القاضي بلا سبب ونفوذ العزل في الأمر العام، أما الوظائف الخاصة كالأذان والإمامة والتدريس والطلب والنظر ونحوه فلا ينعزل أربابها بالعزل من غير سبب كما أفتى به كثير من المتأخرين منهم ابن رزين فقال: من تولى تدريسا لم يجز عزله بمثله ولا بدونه ولا ينعزل بذلك. وإذا قلنا لا ينفذ عزله إلا بسبب فهل يلزمه بيان سبب العزل، أفتى جميع المتأخرين بأنه لا يلزمه.
المصدر: صحيفة الانباء الكويتية.