5 ربيع الأول 1434هـ 6 يناير 2014م
الحـمـد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه، أما بعد:
عمدتُ – بعد توفيق الله تعالى – إلى الإسهام في تجـلـيــة حقـيـقــة طالـمــا غابت ولعقود طويلة عن أذهان كثير من المسلمين، هذه الحقيقة لها شأن عظيم وأثر بالغ فـي نهـضـــــة الإسلام وانتشاره في القرون الأولى، ألا وهي “سنة الوقف” تلك السنة الخيرية التي امتاز بها المجتمع الإسلامي الأول لقول جابر : « لم يكن أحد من الصحابة له مقدرة إلا وَقَفَ » ، ولـقــد ذكــر الـتــاريــخ الإســـلامي في المجال التطبيقي لفكرة الوقف كثيراً من الأوقاف التي تبارى المحسنون من المسلمـيـن فـي كل أقطارهم وعصورهم وعلى اختلاف مذاهبهم في إنشائها على جهات البر الكثيرة التي مــا زال كثير منها قائماً حتى اليوم. وهـذه الأوقاف مما اختُص به المسلمون؛ لقــول الإمام الشافعي – رحمه الله -: ” لم يحبس أهل الجاهلية – فيما علمته – داراً ولا أرضاً تبرراً بحـبـسـهـا، وإنما حبس أهل الإسلام “ ، و إلا فقد ورد أنهم كانوا يحبسون؛ ولكن بقصد الفخر والخيلاء ؛ بل إن فكرة حبس المال والاستفادة من ريعه معروفة من قديم الزمان وحديثه، وإن لم يسم بالاسم المتعارف عليه عند المسلمين وهو الوقف.
تعريف الوقف:
الوقف لغة: يطلق على الـحـبـس ، كـمــا أنـــه يطلق على المنع ، فأما الوقف بمعنى الحبس فهو مصدر قولك: وقفتُ الدابةَ ، ووقفتُ الأرضَ على الـمـسـاكـيـن، أي جعلـتـهـا محبوسة على ما وقفت عليه ليس لأحد تغييرها أو التصرف فيها. وأما الوقف بمعنى المنع فلأن الواقف يمنع التصرف بالموقوف.
وأما في اصطلاح الفقهاء، فقد عُرِّف الوقف بتعاريف كثيرة تبعاً لاختلاف المذاهب والأقوال في مسائل الوقف،
وأقرب تلك التعاريف لمعنى الوقف ما ذكره ابن قدامة في المقنع بأنه: ” تحـبـيـس الأصــل وتسبيل المنفعة “ ، لكونه مقتبساً من قول أفصح البشر لساناً وأبلغهم بياناً صلى الله علـيـه وسلم ، حينما سأله عمر بن الخطاب عن أرض أصابها بخيبر، فقال له: « إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها » .
الأصل في مشروعية الوقف:
الأصل في مشروعـيـتـه: الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك إجماع الأمة.
1. أما الكتاب: فقول الله – تعالى -:{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92].
2. أما السنة:
فقد ورد فـي صـحـيـح البخاري عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: أصاب عـمـر بخـيبر أرضاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قــط أنـفـس مـنــه، فـكـيف تأمرني به؟ قال: « إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها » ، فتصدق عمر أنه لا يباع أصـلـهــــا ولا يوهب ولا يورث وإنما هي صدقة في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابـن السـبـيـل، لا جـنــاح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول فيه ، وعن أبي هريرة قـال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صـدقـــة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له » .
3. وأمـــا الإجماع : فقد اشتهر اتفاق الصحـابة – رضوان الله تعالى عليهم – على الوقف قولاً وفــعــلاً ؛ ومـــن ذلك :
قول الصحـابي جابر بن عبد الله السابق ذكره ، وكذا قول الإمام الشافعي – رحـمــــــه الله -: « بلغـني أن أكثر من ثمانين رجلاً من الصحابة من الأنصار وقفوا » . وذكر الخصـاف أن فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما وقفوه من عقاراتهم وأموالهم إجماع منهم على أن الوقوف جائزة ماضية .
أركان الوقف:
أركانه أربعة، هي :
1- الواقف: وهو الحابس للعين.
2- الموقوف: وهي العين المحبوسة.
3- الموقوف عليه: وهي الجهة المنتفعة من العين المحبوسة.
4- الصيـغــة: ويقصد بها لفظ الوقف وما في معناه.
وهناك ألفاظ صريحة وألفاظ كناية.
أما الألفاظ الصريحة فهي كقولك: وقفت، وحبست، وسبَّلت،
وأما ألفاظ الكناية فهي كقولك: صدقة محرمة، أو صدقة محبسة، أو صدقة مؤبدة.
أنواع الوقف:
ينقسم الوقف باعتبار الجهة الأولى التي وُقِفَ عليها إلى نوعين :
1- الوقف الأهلي.
2- الوقف الخيري.
يُقـصـد بالوقف الأهلي: وقف المرء على نفسه،.. ثم على أولاده،.. ثم على ذريته، .. ثم عـلـــى جهة خيرية من بعدهم.
أما الوقف الخيري: فهو الوقف على جهة بر ومعروف،كالمساجد والمدارس والمستشفيات، وسمي وقفاً خيرياً لاقتصار نفعه على المجالات والأهداف الخيرية العامة.
الحكمة من مشروعية الوقف:
لتشريع سنة الوقف حِكَمٌ عظيمة أبرزها: إيجاد مصدر تمويلي دائم لتحقيق مصالح خاصة ومنافع عامة، وعلى أساس هذه الحكمة يمكن وصف الوقف بأنه وعاء تـُصبُّ فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد تتحقق به مصالح خاصة ومنافع عامة؛ ولا ريب أن هذه الخيرات تكون من أموال المسلمين وممتلكاتهم وأن حصولهم عليها يكون من جهةٍ حلال ومن طيب المال.
مؤسسة الوقف والنهضة بشؤون الإسلام:
بعد هــــذه الـمـقـدمــة القصيرة حول تعريف الوقف .. وأنواعه .. والحكمة منه، نجد أن الفقه الإسلامي ينظر إلى الوقف على أنـه مؤسسة تمويلية .. تنموية لها شخصيتها الاعتبارية، وأن مكونات هذه الـشـخـصـيـة لا تنحصـر فـي الـتـركـيـز على أعيان الوقف وإنما على الجهة (الخاصة أو العامة) التي رُصدت الأوقاف لمصلحتها، وبـهــذا تكون مؤسسة الوقف مصدراً مالياً من مصادر الأمة الإسلامية تستطيع – بأمر الله – تعالـى – أن تـنـقـلـهــا من مرحلة الإعداد (الصحوة) إلى مرحلة البناء (النهضة) .
بمعنى أن مرحلة الوعي والالـتــزام بالدين الإســلامـي (الصـحــوة الإسلامية) يترتب عليها عودة كثير من المسلمين إلى طريق الرشـــد والاستقامة – منهج أهـــــل السـنـة والجـمـاعة – هذه المرحلة تدفع كثيراً من المسلمين – المقتدرين – إلى الإنفاق والبذل في جهات الـبـر والـخـيــر المختلفة، ومن ثم قيام مؤسسات خيرية منها مؤسسة الوقف، هذه المؤسسات تسعى إلى دعــــم مجــالات التنمية المختلفة، فتبدأ حينئذ حركة البناء والنهضة تظهر وتنتشر في أرجاء المجـتـمـع الإسلامي؛
وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بزوغ فجر الإسلام؛ حيث أوقف صلى الله عليه وسلم الحوائط السبعة في المدينة .
وقال عمر بن الخطاب : كان لـرسـول الله صلى الله عـلـيـه وسلم ثلاث صفايا ، وكانت بنو النضير حبساً لنوائبه، وكانت فـدك لابن الـسـبـيـل، وكانت خيبر قد جزأها ثلاثة أجزاء: جزأين للمسلمين، وجزءاً كان ينفق منه على أهـلـه؛ فإن بقي فضلٌ رده على فقراء المهاجرين .
وقال عبد الله بن كعب: حبس المسلمون بـعـــــد رســول الله صلى الله عليه وسلم على أولادهم وأولاد أولادهم .
وذكر الطرابلسي: حبست عـائـشـــــة – رضـي الله عنها – وأختها أسماء و أم سلمة و أم حبيبة و صفية أزواج النبي صلى الله عـلـيـه وسلم ،
وحبس سعد بن أبي وقاص و خالد بن الوليد و جابر بن عبد الله و عقبة بن عامر و عـبــد الله بــــن الزبير وغيرهم – رضي الله عنهم – أجمعين ،
وقال الشافعي: وأكثر دور مكة وقف .
وعـلـيـه: إذا كـانـت المجـتـمـعــات الإسلامية عاشت حياة الصحوة مع بداية هذا القرن الخامس عشر الهجري ونهاية الـقــــرن العـشــريـن الميلادي؛ فإن المناداة إلى عودة الوقف للإسهام في تمويل مجالات الدعوة ورعاية المؤسـســات الـخـيـريـة، والإنفاق على القائمين عليها “تمويلاً للنهوض بشؤون الإسلام” يعد فرصة مواتية لإعـادة الاعتبار لهذه السنة بما يتلاءم مع مستجدات العصر الحالي؛ لأن مؤسسة الوقف لها أهداف تتعلق بشبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، تسعى دائماً لنـشـر الخير، وتنمية المجتمع الإسلامي، وإشاعة روح السخاء والبذل الذي يحرك أبناء الأمـــــة الإسلامية ويقودهم إلى ساحات التكافل والتعايش، وبذل المعروف والإحسان، ويبعث في نفوسهم معاني الإسلام؛ تمهيداً للمستقبل المشرق الواعد، وتوطئة لمقدم جيل إسلامي صمـيـم أشد أخذاً بالإسلام في نهضته الحديثة الراقية .
ولا نـكـــون مبالغين إذا قلنا: إن ظهور هذه المؤسسة الوقفية وانتشارها داخل المجتمعات الإسلامـيــة كفيل – بعد الله تعالى – بأن تقوم بالدور الريادي للأمة الإسلامية خلال هذا القرن الهـجـــري الجديد، بجانب المؤسسات الإسلامية الأخرى؛ ذلك أن مؤسسة الوقف بمثابة الكيان الحسي والمعنوي الذي ينسج داخل جسم المجتمع الإسلامي خيوطاً محكمة في التشابك، وعــلاقــــات قـويـــة من الروابط يغذي بعضها بعضاً، تبعث الروح في خلايا المجتمع حتى يصير كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. ويصدق على ذلك قول الــرسول صلى الله عليه وسلم : « مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشـتـكـى مـنـه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» .
الوقف مؤسسة تمويلية تنموية:
لقد أثبتت التجربة التاريخية عبر القرون الإسـلامية الماضية، الدور الكبير والعطاء المتميز لمؤسسة الوقف في تمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والصحية والمجتمعية، وفي رعاية المساجد والمكتبات،…إلخ، مما ســاعد على نمو الحضارة الإسلامية وانتشارها؛ حـيـث انـتـشـرت بسببها المدارس والمكتـبـات والأربطة وحِلَق العلم والتأليف، وتحسنت بدعمها الأحــــــوال الصـحـيـة للـمـسـلـمـيـن وازدهر علم الطب، وأنشئ ما عرف قديماً بالبيمارستانات أو المارستانات (المستشفيات)، إضافة إلى دور هذه المؤسسة في دعم الحركة التجارية والنهضة الزراعية والصناعية وتوفير البنية الأساسية من طرق وقناطر وجسور.
والمتأمل في أساليب الانتفاع الاقتصادي لمؤسسة الـوقـف في العصور الإسلامية الأولى سيجد أنه شمل أنواعاً مختلفة من مصادر ثروة المجتمع تمـثـلـت فـي أراض زراعـيــــة وحدائق وبساتين إلى مختلف العقارات والدكاكين وأدوات الإنتاج فضلاً عن السفن التـجــــاريــــة والنقود.
أمـــا عن الآثار التنموية لمؤسسة الوقف التي تظهر في حياة المجتمع فهناك آثار اقتصادية أبرزها: الأثر على التشغيل والتوظيف وتوزيع الثروة وتشجيع الاستثمارات المحلية، كما أن لهــــــا آثـــاراً اجتماعية، أهمها: تحقيق التكافل الاجتماعي والترابط الأسري، وبناء المساكن للـضـعـفــــــاء، ومساعدة المحتاجين، وتزويج الشباب، ورعاية المعوقين والمقعدين والعجزة، وبناء القبور وتجهيز لوازم التغسيل والتكفين للموتى.
إضافة إلى ذلك فإن لهذه المؤسسة الإسلامية العريقة الأثر الواضح في عملية التنمية البشرية التي تعنى ببناء الإنسان بجميع جوانبه “الــروحية والعقلية والجسمية”، وذلك من خلال تركز أموال الوقف في بناء المساجد والجــوامع “دور العبادة وتركيزها على جانب الروح”، والمدارس والجامعات والمكتبات وكـفـالة الدعاة “دور التعليم وتركيزها على جانب العقل”، والمستشفيات والمراكـز الـصـحـيــة “المارسـتـانـات أو البيمارستانات” وتركيزها على جانب الجسم.
ومـــا أحوج المجتمعات الإسلامية في هذا العصر إلى وجود مؤسسات وقفية تتولى كثيراً من شؤون حياتهم؛ فقد تتوفر متطلبات الحياة في مكان بينما نجد أماكن أخرى يعيش أهلها في شظف من العيش.