من أمثلة الوقف في التاريخ الإسلامي
كتبه : د. سامي سلمان
قد ولج الوقف طيلة التاريخ الإسلامي في شرق العالم الإسلامي وغربه كل هذه الميادين بنسب متفاوتة، وفي فترات من مسيرة هذه الأمة متباينة، فأمثلة التاريخ كثيرة، ولعل من طريفها تلك الدعوى التي يقوم بها أشخاص ليسوا من مواطني قرطبة، ينزلون بها فيرون أوقاف المرضى التي توفر ما يُسمى “بالضمان الاجتماعي” في لغة العصر، فيطالب هؤلاء الأشخاص بالإفادة من هذا الوقف “الضمان”، فيفتي الفقهاء أن إقامة أربعة أيام في قرطبة تجعل الضيف مواطنا قرطبيا ليفيد من الأوقاف[8].
ووقف الأموال لفداء أسارى المسلمين. كما كان في الأندلس فقد كان عند أحدهم ستمائة دينار ذهبا وقفا لفداء الأسارى[9].
وقد بلغت الكتاتيب التي تم تمويلها بأموال الوقف عددا كبيرا؛ فمثلا يورد منها ابن حوقل – في كتابه “الجغرافي” – ثلاثمائة كُتاب في مدينة واحدة من مدن صقلية، وذكر أن الكتاب الواحد كان يتسع للمئات أو الآلاف من الطلبة.
وذكر أبو القاسم البلخي مدرسة في ما وراء النهر، كانت تَسَع ثلاثة آلاف طالب ينفق عليهم وعلى الدراسة فيها من أموال موقوفة لذلك الغرض[10].
وجاء في رسالة أحد الواقفين إلى أحد النظار على الوقف بالدار البيضاء: “وبعد فنأمرك أن تنفذ للطالبين والمدرسين الواردين من فاس بقصد التدريس وبث العلم: دارا من دور الأحباس لنزولهما، وعشرين ريالا للواحد من مدخول الأحباس في كل شهر حتى تكتمل مدتهما – وهي سنة واحدة – ليعين بدلهما عند انقضائهما – بحول الله – على يد قاضي فاس والسلام”[11].
وفي مجال الصحة: مستشفى قلاوون؛ فقد أنشئ هذا البيمارستان لمداواة مرضى المسلمين: الرجال والنساء، من الأغنياء المثرين والفقراء المحتاجين بالقاهرة وضواحيها من المقيمين بها والواردين عليها على اختلاف أجناسهم وتباين أمراضهم وأوصابهم، يدخلونه جموعا ووحدانا وشيبا وشبانا، ويقيم به المرضى الفقراء من الرجال والنساء لمداواتهم لحين بُرئهم وشفائهم، ويصرف ما هو معد فيه للمداواة، ويفرق على البعيد والقريب والأهل والغريب من غير اشتراط لعوض من الأعواض، ويصرف الناظر من ريع هذا الوقف ما تدعو حاجة المرضى إليه من سُرُر- جريد أو خشب على ما يراه مصلحة أو لُحف محشوة قطنا وطراريح محشوة بالقطن، فيجعل لكل مريض من السرر والفرش على حسب حاله وما يقتضيه مرضه، عاملا في حق كل منهم بتقوى الله وطاعته، باذلا جهده وغاية نصحه، فهم رعيته وكل راع مسئول عن رعيته.
ويباشر المطبخ بهذا البيمارستان ما يطهى للمرضى من دجاج وفراريج ولحم، ويجعل لكل مريض ما طبخ له في زبدية خاصة به من غير مشاركة لمريض آخر، ويغطيها ويوصلها لكل مريض إلى أن يكتمل إطعامهم، ويستوفي كل منهم غذاءه وعشاءه وما وُصف له بكرة وعشيا.
ويصرف الناظر من ريع هذا الوقف لمن ينصبه من الأطباء المسلمين الذين يباشرون المرضى مجتمعين ومتناوبين ويسألون عن أحوالهم وما يجد لكل منهم من زيادة مرض أو نقص، ويكتبون ما يصلح لكل مريض من شراب وغذاء أو غيره في (دستور ورق) ويلتزمون المبيت في كل ليلة بالبيمارستان مجتمعين أو متناوبين، ويباشرون المداواة ويتلطفون فيها، ومن كان مريضا في بيته – وهو فقير – كان للناظر أن يصرف إليه ما يحتاجه من الأشربة والأدوية والمعاجين وغيرها مع عدم التضييق في الصرف[12].
لهذا نقول – دون أدنى تردد -: إن الوقف ليس من باب التعبد الذي لا يعقل معناه، بل معقول المعنى مصلحي الهدف.
ما الذي يمكن للمصلحة أن تتدخل به في طبيعة الوقف ؟
لكن ما الذي يمكن للمصلحة أن تتدخل به للتعامل مع طبيعة الوقف التي تقتضي سكون اليد، وبقاء العين، ولو كان ذلك على حساب مصلحة المنتفع الآنية أو المستقبلية، وهي مصلحة قد تكون محققة أو مظنونة.
هنا تختلف أنظار العلماء، وتتباين آراؤهم؛ من محافظ على عين الموقوف إلى ما يشبه التوقيف والتعبد، ومن متصرف في عين الوقف في إطار المحافظة على ديمومة الانتفاع وليس على دوام العين، ومن متوسط مترجح بين الطرفين، مائس مع رياح المصالح الراجحة في مرونة صلبة إذا جاز الجمع بين الضدين.
الفريق الأول: يمكن أن نصنف فيه المالكية والشافعية، فلا يجيز الإبدال والمعاوضة إلا في أضيق الحدود، في مواضع سنذكرها فيما بعد.
الفريق الثاني: المتوسط يمثله الحنابلة وبعض فقهاء المالكية وخاصة الأندلسيين.
الفريق الثالث: الذي يدور مع المصالح الراجحة حيثما دارت وأينما سارت، ويتشكل من بعض الأحناف – كأبي يوسف – ومتأخري الحنابلة – كالشيخ تقي الدين ابن تيمية – وبعض متأخري المالكية.
فلنقرر محل الاتفاق، وهو أن الأصل في الوقف أن يكون عقارا أرضا – وما اتصل بها – بناء أو غرسا -: لا يجوز تفويت عينه، ولا التجاوز به عن محله، واحترام ألفاظ الواقف وشروطه بهذه الصفة يتفق الجمهور على صحته، بإضافة شرط لينضم إليهم أبو حنيفة وهو حكم حاكم به. إلا أن هذا الأصل قد يقع التجاوز عنه لقيام مصلحة تقتضي ذلك من مذهب أو أكثر، ومن فقيه أو أكثر.