الأوقاف الإسلامية ودورها الصامت الذي يتغلغل في حياتنا
العرب اليوم
للأوقاف في تاريخ الإسلام والمسلمين، دور عظيم ليس في الأعمال الخيرية وأوجه التكافل الاجتماعي فحسب، بل في مختلف مناحي الحياة، فالوقف الذي بدأ ينتشر منذ عهد النبوة والصحابة، توسعت مجالاته فشملت المساجد والمستشفيات والمدارس والمكتبات والحانات والفنادق والأسبلة والتكايا، وكذلك الإنفاق على التجهيزات العسكرية.
غير أن بعض الأوقاف، التي تعني في أبسط تعريفاتها “حبس العين وتسبيل الثمرة”، أي رصد رأس المال ومنع بيعه والإنفاق من إيراداته في سبل الخير، تلمست مجالات غير تقليدية ولم تقصد فقط إشباع الاحتياجات الأساسية للفقراء والمساكين والمرضى وطلبة العلم، بل تشعبت أكثر نحو مراعاة حقوق الإنسان وحقوق الحيوان، واجتهدت نحو تطيب الأحاسيس ومراعاة المشاعر وتحسّبت لحفظ الكرامة ورفع الإيذاء وإرضاء طموحات المحرومين.
إلا أن ذلك لم يمنع بأن يكون لبعضها، في ظروف معينة، وجه أخر سنبينه في نهاية هذا المقال.
تُصلح ما أغفله المجتمع، وتحتضن من ظلمته الحياة
كان الوقف هو الحجر الأساسي الذي قامت عليه كل المؤسسات الخيرية في الحضارة الإسلامية، ومن ابرز المؤسسات الوقفية بناء الخانات والفنادق للمسافرين والمنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر ومنها التكايا والزوايا ومنها بيوت خاصة للفقراء يسكنها من لا يجد ما يشتري به أو يستأجر دارا ومنها السقايات، وسبل الماء في الطرقات العامة للناس جميعا ومنها المطاعم الشعبية التي يفرق فيها الطعام من الخبز واللحم وحساء وحلوى مثل تكية السلطان سليم وتكية الشيخ محي الدين بدمشق.
ومنها حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين وقد كانت كثيرة بين بغداد ومكة وبين دمشق والمدينة المنورة وبين عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقراها ومنها أمكنة المرابطة على الثغور ووقفٌ لإصلاح الطرق والقناطر والجسور، ومنها لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.
وكانت هناك مؤسسات وقفية للقطاء واليتامى ولختانهم ورعايتهم، ومؤسسات للمقعدين والعميان والعجزة توفر لهم المسكن والملبس والغذاء والتعليم، ومؤسسات لتحسين أحوال المساجين ورفع مستواهم وتغذيتهم بالغذاء الواجب لصيانة صحتهم، ومؤسسات لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم ويخدمهم، ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيات العزاب العاجزين عن نفقات الزواج وتقديم المهور (المصدر كتاب “روائع حضارتنا” لمصطفى السباعي).
حكايات ابن بطوطة
“الأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف لتجهيز البنات إلى أزواجهن، وهي اللواتي لاقدرة لأهلهن على تجهيزهن ، ومنها أوقاف لفكاك الأسرى، وأوقاف لأبناء السبيل يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطريق ورصفها لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليها المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك”
بتلك الكلمات يروي ابن بطوطة في كتابه الشهير “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، واصفاً أوقاف دمشق.
أما أغرب ما قصه ابن بطوطة في كتابه، فكان عن وقف “الصحون”، ويحكي عن ذلك قائلاً: “مررت يوماً ببعض أزقَّهِ دمشق، فرأيت مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صٌحفة من الفخار الصيني، وهو يسمّونه (الصحن) فتكسرت، واجتمع الناس، فقال له بعضهم: اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعها وذهب معه الرجل إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن.
وهذا من أحسن الأعمال، فإنَّ سيد الغلام لا بُدَّ له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره، وهو ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبراً للقلوب” (المصدر كتاب رحلة ابن بطوطة “تحفة النظار في غرائب الامصار وعجائب الاسفار”، من تحقيق محمد عبدالمنعم العريان).
أقوال جاهزة
الأوقاف الإسلامية، تُصلح ما أغفله المجتمع، وتحتضن من ظلمته الحياة
وقريب مما حكاه ابن بطوطة، كان هناك وقف بالشام في عهد الدولة العثمانية، يسمى “وقف الإبريق”، ويعرف أيضاً بوقف الفاخورة أو الكاسرة، وهو وقف خيري، وكان لهذا الوقف دكان خاص لتوزيع الأباريق والأواني الفخارية، وموقعه في باطن بيروت، وكان مهمة القيم على الوقف إعطاء الصبي والفتاة والفقير والغلام وعاء فخار سليم مقابل الوعاء الذي انكسر معه أثناء قيامه بعمله.
الحيوانات المريضة والعاجزة وتلك الضالة والمهاجرة
وجد من بين الأوقاف القديمة أوقافٌ خاصة لتطيب الحيوانات المريضة، وأوقافٌ لرعي الحيوانات المسنة العاجزة، ومنها أرض المرج الخضراء (التي يقام عليها الآن الملعب البلدي بدمشق) فإنها كانت وقف للخيول العاجزة التي يأبى أصحابها الإنفاق عليها لعدم الانتفاع بها، فترعى في هذه الأرض حتى تموت.
ومن أوقاف دمشق وقف للقطط تأكل منه وترعى وتنام، حتى كان يجتمع في دارها المخصصة لها مئات القطط الفارهة السمينة التي يقدم لها الطعام كل يوم وهي مقيمة لا تتركها.
كما أنشئت أوقاف لإطعام الطيور والعصافير في مدن عديدة، منها: دمشق والقدس وفاس، وأوقاف لطيور الحرم المكي الشريف، وكان هناك وقفٌ للكلاب الضالة، حيث كان يُنفق من رَيعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب (المصدر كتاب “من روائع الاوقاف الإسلامية” لراغب السرجاني).
كتبٌ وحليبٌ وسماحٌ وعلاج وكساء ونفقة
وكان من ميرات صلاح الدين الأيوبي أنه جعل في أحد أبواب القلعة الباقية حتى الآن في دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب وميزاباً أخر يسيل منها الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.
كما كان هناك الكثير من الأوقاف المخصصة للمكتبات العامة في مختلف العصور الإسلامية، وكان في الموصل دار أنشاها ابو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي، وسمّاها دار العلم، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب علم لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معسراً أعطاه كتباً ونقوداً. وكانت تفتح في كل يوم.
أما في مدينة طرابلس الشام، عُرِفَ وقفٌ غريبٌ خُصّص ريعه لتوظيف اثنين يمران بالمستشفيات يومياً، فيتحدثان بجانب المرضى حديثاً خافتاً ليسمعه المريض بما يوحى له بتحسن حالته واحمرار وجهه وبريق عينيه.
حّول السلطان المنصور قلاوون دار لبعض الأمراء إلى مستشفى عام 683هـ/ 1284م، سميت بالمستشفى المنصوري الكبير أو بيمارستان قلاوون، ولم يكن يكتفي فقط بالعلاج المجاني للمرضى وإيوائهم وتقديم الدواء والغذاء المناسب لهم حتى شفائهم، بل كان يصرف لمن يتم شفائه كسوة ونفقة لمن يحتاجها منهم. فقد كان المستشفى الذي أوقف عليه السلطان قلاوون ما يغل عليه ألف درهم سنوياً، وكان الدخول والانتفاع به مباح لجميع الناس، من ذكر وأنثى وغني وفقير، وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند شقائه كسوة ومن مات جهز وكفن ودفن.
وعين له الأطباء من جميع التخصصات ووظف له الفراشين والخدمة لإشراف على المرضى وإصلاح أماكنهم وتنظيفها وغسل ثيابهم وخدمتهم في الحمام، ورتب مكاناً لرئيس الأطباء لإلقاء دروس الطب على الطلبة، ولم تكن الاستفادة منه قاصرة على المرضى المقيمين بل رتب لمن يطلب وهو في منزله ما يحتاج من الشاربة والأغذية والأدوية.
ولا يخرج منه كل من يبرأ من مرض حتى يعطى كسوة للباسه ودراهم لنفقاته حتى لا يضطر للالتجاء إلى العمل الشاق فور خروجه. ونص في وقفيته على أن يقدم طعام كل مريض في زبدية خاصة به من غير أن يستعملها مريض أخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل (المصدر كتاب “من روائع حضارتنا” لمصطفى السباعي).
كما كانت هناك أوقافٌ عجيبة لجامع الأزهر لضمان حسن سير العملية التعليمية وتوفير أكبر قسط من الراحة للمدرسين، ومن هذه الأوقاف وقف البغلة وهو وقف خصص للإنفاق على البغال التي يركبها المدرسون بالجامع الأزهر لضامن الراحة لهم.
وفي العصر العثماني، وجد وقفٌ كان موقعه في باطن بيروت وله دكان خاص توضع فيه قفة مليئة بالخبز كل يوم جمعة، حيث يقصدها المعوزون والفقراء والمساكين القاطنون في بيروت من مختلف الطوائف، فيوزع متولي قفة الخبز عليهم، فيأخذ كل منهم حاجته وينصرف دون سؤال أو إذلال، وكان لهذه القفة أوقاف عديدة (المصدر كتاب “أوقاف المسلمين في بيروت في العهد العثماني” لحسان حلاق).
أوقاف الحلوى والحلي ووقف الزوجات الغاضبات
ومن الأوقاف التي انتشرت خلال الخلافة العثمانية، تلك الأوقاف الخاصة بإعارة الحلي والزينة في الأفراح والأعراس، فيستفيد من هذا الوقف الفقراء والعامة، بما يلزمهم من الحلي لأجل التزين به في الحفلات، ويعيدونه إلى مكانه بعد انتهائها، فيتيسر للفقير أن يبرز يوم عروسه بحلة لائقة، ولعروسه أن تتحلى بحلية رائعة مما يجبر خاطرهما (المصدر كتاب “حاضر العالم الإسلامي” لشكيب أرسلان).
كان بمدينة مراكش بالمغرب، مؤسسة وقفية تسمى “دار الدقة”، وكانت ملجأ تذهب إليه النساء اللاتي يقع بينهن وبين أزواجهن نفور وبغضاء، فلهن أن يقمن أكلات شاربات إلى أن يزول ما بينهن وبين أزواجهن من نفور أو تحلّ أزماتهنّ. ودار الدقة، المقصود بها الدار التي تدق على يد الزوج المسيء في معاملته لزوجته حتى توقفه عند حده.
أما في تونس، يوجد وقف لختان أولاد الفقراء، يختن الولد ويعطى كسوة ودراهم، وكانت شواطئ تونس تفيض في بعض أوقات السنة بنوع من السمك، ولذلك كان هناك وقف يشتري من ريعه جانباً كبيراً من هذا السمك ويوزع على الفقراء مجاناً.
وكان بتونس أيضاً وقف لمن وقع عليه زيت المصباح أو تلوث ثوبه بشيء آخر، فيذهب إلى هذا الوقف، ويأخذ منه ما يشتري به ثوباً آخر، ووقف توزع الحلوى في شهر رمضان مجاناً (المصدر كتاب “الحضارة العربية الإسلامية” لشوقي أبو خليل).
يعد من أغرب الأوقاف وأجملها، قصر الفقراء الذي عمّره نور الدين محمود زنكي في ربوع دمشق، فإنه لما رأى ذلك المنتزه مقصوراً على الأغنياء، عزّ عليه ألا يستمتع به الفقراء مثلهم بالحياة، فعمّر القصر ووقف عليه قرية “داريا” وكانت أعظم ضياع الغوطة وأغناها (المصدر كتاب منادمة الأطلال ومسامرة الخيال لعبد القادر بدران).
مع أنها أعطت خيراً…
لا بد في غمرة اعتزازنا بتاريخ الأوقاف، أن نذكر بأنها لم تكن على مر التاريخ الإسلامي والمعاصر بتلك الصورة الوردية المفعمة بالإنسانية، فلا نغفل بأنها كانت ساحات للصراعات السياسية، ويشهد بذلك تكرار محاولات الحكام الاستيلاء عليها، وخاصة في عصر المماليك في مصر والشام، فقد كان هناك نوع من الأوقاف يعرف في مصر بالوقف الأهلي والشام بالوقف الذري، وهو يعني أن يوقف صاحب رأس المال أو الثروة، ثروته على أهله وذريته، وفي بعض الأحيان بمشاركة الأعمال الخيرية.
ويرصد الشيخ محمد ابو زهرة في كتابه “محاضرات في الوقف”، كيف أن بعض الذين وقفوا اتخذوه ذريعة لمحاربة الميراث، وحرموا البنات، أو جعلوه قسمة ظالمة بين الذكور والإناث، ويؤكد أن تلك المآثم قد كثرت حتى شوّهت الأوقاف واخفت في كثير من الأحيان خيراتها.
وكثير من حجج الأوقاف الأهلية تنص صراحة على حرمان البنات أو أبنائهم من إيرادات الوقف وأنّه قصر فقط على الأبناء وذريتهم من الذكور، فيما يسمى بأحقية “أولاد الظهور وحرمان أولاد البطون”.
بل إنّ الإقبال الواسع على الوقف، في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، وخصوصاً الأوقاف الأهلية في دولة مثل مصر، وصل بالأراضي الموقوفة إلى 770 ألف فدان، بما يعادل سبع مساحة الأراضي الزراعية في مصر في ثلاثينات القرن الماضي.
وصحب ذلك، وفق الشيح أبو زهرة، عنف استغلال الأراضي الموقوفة ونهب غلاتها من قبل المتولين أمرها، فنهبت الأرض وخربت العمائر الموقوفة، فضلاً عن تقييد التصرف في هذا الحجم الهائل من الأراضي والعقارات، وعدم رعاية الأعيان الموقوفة كما ترعى الأملاك الحرة. بل أن كثرة الأوقاف الأهلية كان من شانها رفع معدلات البطالة، فكثير من المستحقين في الأوقاف يطمئنون إلى أرزاقهم التي تأتيهم كل عام، فينقطعون عن الحياة الجادة العاملة وينصرفون إلى الحياة اللاهية الخاملة.
وإلى جانب ذلك فان البعض قد لجأ إلى الأوقاف الأهلية، من أجل التهرب من دفع مديونياتهم، ومع كثرة مثالب الأوقاف الأهلية، اضطرت كثير من الحكومات العربية ومنها مصر وسوريا إلى إجراء الكثير من التعديلات على قوانين الوقف وألغت الوقف الأهلي أو الذري (المصادرر كتاب محاضرات في الوقف للشيخ محمد ابو زهرة، وكتاب نبذة في الاوقاف تاليف عبدالعزيز قاسم، القاضي بالمحكمة العامة بالرياض).