شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

ثقافة الوقف وأثرها في النهوض بالمجتمع

watering_can_watering_young_plants_large.jpg

watering_can_watering_young_plants_large.jpg

د. أحمد ياسين القرالة

كان للوقف، على مدار التاريخ الإسلامي، إسهامٌ متميزٌ ودورٌ بارزٌ في حل كثير من المشكلات الاجتماعية، والمساهمة في تقدم المجتمعات الإسلامية وتطورها، ولم يقف دوره عند الاهتمام بضرورات الحياة الإنسانية أكلاً وشرباً وعلاجاً أو حاجياتها من الاهتمام بالبيئة وجودتها، بل تجاوز ذلك إلى كماليات الحياة وتحسيناتها كالاهتمام بالحيوان ورعايته والمحافظة على التنوع الحيوي في هذا الوجود.
ونظراً لهذا الدور، اهتم المسلمون بهذه الأوقاف وعملوا على تنميتها وتطويرها لتحقق مقاصدها، كما حظي الوقف بالكثير من الدراسات النظرية التي تبين مفهومه وتحدد أحكامه، كما عملت الحكومات في دول العالم الإسلامي على إصدار قوانين وتشريعات تنظم هذه الأوقاف وتضبط أحكامها.
ومع أن للوقف طاقة هائلة على حل مشكلات المجتمع المختلفة، وله قدرة متميزة وغير محدودة على تطويره وخدمته في الميادين كافة، إلا أن غياب ثقافة الوقف ومقاصده الشرعية تؤدي في حالات كثير إلى الحد من دوره في خدمة المجتمع وحل مشكلاته؛ حيث يعتقد الكثير من الواقفين أن الوقف لا يكون إلا في الجوانب الدينية البحتة كبناء المساجد وغيرها، فاتجهت الكثير من الأوقاف الإسلامية هذا الاتجاه، فأصبحنا نعاني من إسراف واضح في بناء المساجد والعمل على زخرفتها وتزيينها لدرجة البذخ والإسراف الذي يتناقض مع رسالة المسجد ووظيفته، كما أن هذه المساجد لا تمتلئ بالمصلين إلا يوم الجمعة فقط، مما يجعل طاقتها الفعلية مهدورة في غير نفع عام.
ومن العجيب أنك ترى انتشار المساجد في كل الأحياء والأزقة، بينما تفتقر تلك الأحياء إلى المدارس والمستوصفات والنوادي الرياضية والحدائق العامة، كما أن الوقف على التعليم والبحث العلمي يأتي في رتبة متدنية جداً في سلم الوقف الخيري، مع أن الوقف على التعليم والبحث العلمي هو الذي ينهض بالمجتمع ويعمل على تطويره ويساعد على حل مشكلاته.
فإذا كان الوقف عملاً من أعمال الخير، ووجوه الخير لا يمكن عدها وإحصاؤها، فإن أي عمل يقدمه المسلم ويبتغي به وجه الله تعالى فإنه يكون صدقة يؤجر عليها تماماً كما يؤجر على النفقة على دور العبادة، وثواب هذا الخير ليس مقتصراً على الإنسان وحده، بل يتعدى ذلك إلى الحيوان، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله    قال: بينما رجلٌ يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطشُ. فوجد بئراً فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإِذا كلبٌ يلهَثُ، يأكل الثَّرَى من العطش. فقال الرجل: “لقد بَلَغَ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان قد بلغ مني”. فنزل البئرَ، فملأ خفَّه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقِي فسقى الكلب. فشكر الله له، فغفر له. قالوا: “يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟. فقال: في كل كبِد رطبة أجرٌ، ومن يراجع تاريخ الوقف الإسلامي يجد أن أول وقف بعد وقف المسجد كان وقفاً اقتصادياً وقفه يهودي كان محباً للنبي عليه السلام وهو مخيريق، ثم توالت الأوقاف بعد ذلك وكانت في معظمها في النفع الاقتصادي العام.
إن من يسترشد بالنص القرآني يجد أن القرآن الكريم يدعو إلى التنويع في أبواب الخير وتوزيع مصارفه، وليس أدل على ذلك من تنوع وتعدد مصارف الزكاة؛ حيث يقول تعالى:” إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” فالخير يجب أن يعم الجميع، يبدأ بالفقير يسد حاجته من الطعام والشراب ويوفر له ضروريات حياته، ثم ينتقل إلى المسكين الذي توفرت له ضروريات حياته لينتقل به إلى الرفاهية الاقتصادية، ثم ينتهي بالمجتمع لإشباع حاجاته العامة وحل مشكلاته المختلفة.
لذلك يذهب بعض العلماء إلى أن الوقف لا يشترط فيه أن يكون قربة، إنما يشترط فيه شرط واحد وهو أن لا يكون فيه معصية، وما عدا ذلك فهو جائز ومشروع، استدلالاً بقوله تعالى: “مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ”، والواقف محسن في وقفه ولا حجر عليه في ذلك ما دام وقفه في غير معصية.
ما أحوجنا في هذه الأيام التي تعاني فيه أمتنا من تنوع أزماتها وكثرة مصائبها ومشكلاتها، أن نعيد للوقف وظيفته الأساسية التي شرع لها، وأن نوجهه لخدمة قضايانا وحل مشكلاتنا، خاصة وأن الوقف يعد مورداً مالياً واقتصادياً لا يستهان به، ومن المعلوم أن المال له قدرة فائقة على حل معظم المشكلات والتغلب على جل الصعوبات، وهذا يحتاج إلى إعادة إنتاج ثقافة جديدة للوقف تحقق رسالته الشريفة ومقاصده النبيلة، ويقع على عائق وزارة الأوقاف خلق هذه الثقافة والعمل على تحديد الأولويات الوقفية والاتصال بالواقفين لتوجيههم نحوها.

المصدر: صحيفة الغد الأردني