“أصاب عمر بخيبر أرضًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضًا لم أصب مالاً قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها. فتصدق عمر أنه لا يُباع أصلها ولا يوهب ولا يورث، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطعِم صديقًا غير مُتموِّل فيه” . (صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب الوقف كيف يُكتب).
هكذا نشأت فكرة الوقف في الإسلام فهو العين التي لا تباع ولا تشترى ولا تورث ويستمر ريعها في النفقة على مصارف الخير؛ وباتساع رقعة الدولة الإسلامية ونموها المطرد وكثرة رعاياها وحاجاتهم، تنوعت الوجوه التي تحتاج إلى الرعاية والخدمة والإنفاق، فتشعبت الأوقاف.
ومن الأوجه التي أوقف لها تزويج الشباب والفتيات المحتاجين الذي يختص بدفع المهر ونفقات الزواج وكذلك وقف تجهيز العروس، والحليب للمرضعات وهو وقف تأخذ من ريعه الأمهات المعوزات اللبن والسكر لأطفالهن، ووقف تدريب النساء على الحرف والعمل لخلق نساء قادرات على نفقات ذويهم، ووقف الحلي الذي يضمن للفقراء استعارة الحلي في الأفراح والمناسبات، ووقف الأنية الذي يعطي للإماء بدلا عن ما كسرنه من أواني مالكيهم، ووقف الغاضبات الذي يضمن السكن والنفقة للنساء اللاتي يقع نفور بينهن وبين أزواجهن، ووقف متنزه الفقراء الذي وفر للفقراء متنزهًا كمتنزهات الأغنياء سواء بسواء.
كانت هذه الأوقاف جنبًا إلى جنب مع الأوقاف الشائعة المعتادة، كأوقاف السبل التي تقدم الماء البارد للمارة وأوقاف المساجد والمدارس والمستشفيات، فكان المجتمع المسلم مجتمعًا متلاحمًا عزز فيه الإسلام أن المال مال الله وأن للفقراء حق أصيل في مال الأغنياء، ولما كانت المرأة عضوًا فاعلًا في المجتمع المسلم لها أهلية كاملة ولها ذمة مالية مستقلة، كفل لها الإسلام حقوقًا مالية ولم يلزمها بواجبات في هذا المنحى، فهي تنفق مالها كيف تشاء.
فالمرأة التي تأخذ مهرها كاملًا لا تلزم بدفعه أو دفع جزء منه للزوج والمرأة التي يكون لها حق النفقة على زوجها لا تلتزم بصرف نفقتها على البيت أو الأولاد وإنما هو مالها الخاص والمرأة التي ترث لا تلزم بإنفاق ميراثها على منوال معين وهذه المرأة حتى في حال تطليقها فإن لها نفقة لا تجعلها من المعوزين ولا يتسنى لها إنفاقها في وجه دون وجه.
فكانت بذلك المرأة موسرة في أغلب الحالات، لها مالها الذي يكفيها ويزيد عن حاجتها في أغلب الأوقات، ولذا ظهرت المرأة بقوة في مجال وقف مالها على عمل الخير وكفاية الناس الحاجة والفقر، فكانت السيدة عائشة أول سيدة توقف دارًا كسكن للمحتاجين، وكذلك أوقفت السيدة أم سلمة والسيدة صفية والسيدة أسماء بنت أبي بكر والسيدة أم حبيبة، أما السيدة حفصة بنت عمر فقد آلت إليها إدارة أوقاف أبيها بعد مماته بناء على وصيته، فكانت بذلك أول سيدة تدير وقفًا في الإسلام.
أما في العصر العباسي، فأوقفت”هيلانة” جارية الخليفة المنصور حوضًا في الجانب الشرقي من بغداد، بينما بنت “زبيدة” زوجة الخليفة هارون الرشيد وأم ولده البرك والآبار بمكة، وشقت عين “المشاش” برأس الحجاز، وهي العين التي أجريت مسافة اثني عشر ميلًا إلى مكة وتكلفت مليونًا وسبعمائة ألف مثقال ذهب، فيما بنت أم الخليفة المقتدر “شغب” مشفًا على ضفة نهر دجلة وأنشأت “شمس النهار” جارية الخليفة المقتدي رباطًا يعتني بخدمة الأرامل من مسكن وملبس ومأكل وعناية، ونصبت جارية الخليفة المستضيئ “بنفشا” جسرًا اراح الناس وجوده، وكتبت اسمها على حديد الجسر وكانت من أشهر الواقفات وأكثرهن إحسانًا.
وباعتلاء المماليك سدة الحكم، ظهر نوع آخر من الأوقاف سواء بسواء مع المدارس، وهو الخانقاه التي كانت دورًا لإيواء الفقراء والدروايش وإطعامهم، فأنشأت السيدة بركة بنت عبد الله مدرسة أم السلطان ورتبت بها دروسًا للمذاهب الأربعة ومكتبًا للأيتام وسبيلا، وبنت خوند تتر بنت السلطان قلاوون “المدرسة الحجازية” وألحقت بها دارًا للكتب ومكتبًا للأيتام ومؤدبًا يتكفل بتعليمهم، وأنشأت تذكرباي خاتون ابنة الظاهر بيبرس رباطًا للسيدات المطلقات والأرامل وألحقت شيخات يعملن على وعظ النساء وتفقيههن في الدين.
أما السيدة التي وقفت وقفًا لم يوقفه غيرها؛ وقفًا ينمو ويزدهر ويعظم أثره بمرور السنين فضلًا عن اختلافه وتميزه عن الأوقاف المعتادة في زمانه، فهي السيدة “فاطمة الفهرية” أم البنين التي أنشأت “جامع وجامعة القرويين” لتنشئ بذلك أول جامعة في العالم كله، والتي يسبق إنشاؤها إنشاء أقدم جامعات أوروبا بمائتين وتسعة عامًا، وهي الجامعة التي درس بها ابن خلدون وابن العربي ولسان الدين بن الخطيب، نذرت أم البنين مالها الذي ورثته عن أبيها لبناء الجامعة ونذرت لله صومًا حتى تمام بناء الجامع والجامعة وكانت تشرف على العمال بنفسها.
يظهر مما ذكرناه آنفًا أن المجتمع المسلم لم يبلغ ما بلغ من القوة إلا بجهد الجميع، وأن المجتمع الذي تزاحم أفراده طلبًا للعلم، لم يكن علمهم مجردًا بل دعم علمهم تصديقهم له بالعمل وحب الخير والتسارع فيه، وأن المجتمع كان فاعلًا بحق حين وصلت الحقوق لمستحقيها، ولم تقص فئة من المشاركة المجتمعية، ولم يكن التفاضل سوى بالجهد الشخصي لا غيره.
منه التلاوي.