شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

الهيئة العامة للأوقاف واستثمار الأوقاف

الهيئة العامة للأوقاف واستثمار الأوقاف…

محمد بن سعود الجذلاني


الأحد 25 / جمادى الأولى / 1431 هـ     9 / مايو / 2010 م

وبهذه المناسبة أستعرض مع القارئ الكريم رسالة علمية فقهية واقتصادية محكّمة، باحثها أحد أصحاب الفضيلة قضاة ديوان المظالم، ومن طلبة العلم النابهين الذين من الله عليهم مع العلم والفهم بدماثة الخلق، والأدب الرفيع.

وهو فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الصقيه – المشرف على العلاقات العامة في الديوان – الذي بحث موضوع (استثمار الأوقاف) لغرض نيل رسالة الدكتوراه، فكان بحثُه محل ثناء العلماء والمتخصصين في الفقه والاقتصاد، وطبعته وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف عام 1430هـ وقدم له وزيرها الشيخ صالح آل الشيخ.

وقد رأيت استعراض هذه الرسالة وأبرز ما تضمنته من مسائل تنويهاً بتميزها، ونشراً للعلم والفائدة، في هذا الموضوع الحيوي. فهذا البحث مما لا تستغني عنه أي جهة مهتمة بشؤون الأوقاف، حكومية كانت أو خاصة، لما يتميز به من عمق وفقه ودقة نظر، وما تميز به الباحث من إدراك لمتطلبات العصر، وفهم لمقاصد الشرع، وقدرة على البحث والتأصيل للمسائل المستجدة في هذا الباب، ولست ممن يشهد لفضيلته بذلك، وإنما هي شهادة الوزارة التي كانت معنية بالأوقاف عبر طباعتها لبحثه، وشهادة وزيرها الذي قال عن البحث: (وقد عالج المؤلف – بتوفيق الله – هذا الموضوع معالجة شرعية حكيمة، من خلال منهجية علمية أصيلة، ونظرة ثاقبة، وبُعد في النظر، ربط فيه بين التأصيل والتجديد..).

كما شهد لهذا البحث نخبة من أبرز وأفضل العلماء والأساتذة المتخصصين في الفقه والاقتصاد واستحق الباحث به نيل درجة الدكتوراه بامتياز من قسم الفقه في كلية الشريعة في الرياض.

أما عن البحث فقد جاء مقسوماً إلى مقدمة وتمهيد وبابين، كل باب ينقسم إلى ثلاثة فصول، وعدد كبير من المباحث والمطالب. ومن أهم مسائل البحث:

أولاً: بدأ الباحث بتعريف الوقف في الفقه الإسلامي وأشار لأربعة اتجاهات اختلفت في تعريف الوقف تبعاً للخلاف في ملكية العين الموقوفة وهل تنتقل عن الواقف أم تبقى في ملكه وما يتعلق بذلك من أحكام، ثم انتهى لترجيح التعريف الذي يقتصر على القدر المتفق عليه بين الفقهاء وهو أن الوقف (تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة).

ثانياً: أورد بعض خصائص الوقف وأشار إلى أنه لما كانت استدامة المنفعة من خصائص الوقف، لزم أن يقال إن الاستثمار أيضاً من خصائص الوقف، لأن تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة لا يتحقق على وجه كامل دائم إلا بالاستثمار، وبغيره تقضي نفقات الوقف وأجور التشغيل والصيانة على العين الموقوفة، وانتهى الباحث إلى أن استثمار الأوقاف لهذا المعنى يعد واجباً شرعاً لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وذكر أن ما تحققه الأوقاف من تفاعل نشط مع حركة التنمية في المجتمع المسلم هو من السمات البارزة التي ينتظم فيها الجهد الحكومي والجهد الأهلي لتجني ثمار ذلك يانعة، وليظهر بجلاء البنيان المرصوص للأمة من خلال عمل مؤسسي منظم قائم من داخل المجتمع ينهض بشؤونه ويؤمن احتياجاته.

كما أشار إلى أن الوقف يمكن أن يقوم بدور حيوي بديلاً عن التمويل الاقتصادي الربحي الذي تطغى فيه الأهداف الربحية.

وأضاف أن الوقف في الإسلام يعد سباقاً في بناء أول نظام للتأمينات الاجتماعية، حيث يحقق تأميناً في وقت الأزمات والظروف الطارئة، لكل ما يحتاج إليه المجتمع صحياً أو تعليمياً أو غير ذلك. وعلاجاً ناجعاً لأكبر مشكلات العصر (مشكلة الفقر).

وأشار إلى أن الوقف يجمع بين الادخار والاستثمار معاً، وأنه يتميز بطبيعة خاصة تشبه القطاع الخاص من جهة استهداف الربح عند استثماره، وتقترب من القطاع العام من حيث اهتمامها بتحقيق المصلحة العامة وإعطاء الأولوية للعائد الاجتماعي.

ثالثاً: تكلم الباحث تفصيلاً عن أنواع الوقف فذكر أنه يتنوع باعتبارات متعددة أوردها بشكل مجمل.

رابعاً: خصص الباحث الباب الأول للحديث عن (حقيقة استثمار الوقف، وما يؤثر فيه، والحقوق المتعلقة به).

فبعد أن عرّف استثمار الوقف، ذكر أسباب استثمار الوقف التي من أهمها أنه عبادة لله تعالى من أعظم العبادات لما لها من نفع متعد.

كما أن الشريعة أمرت بالاستثمار من خلال الأمر بتحريك المال والنهي عن القعود والتواكل والحث على السعي في الأرض وعمارتها.

وأن استثمار الوقف يعد هو الفهم الصحيح لحديث: (حبس أصلها وسبل ثمرتها)، وأنه لا ينبغي أن يكون منع الاستبدال للوقف عقبة تُفقد الوقف قيمته. ثم أورد الباحث أنواعاً عديدة لاستثمار الوقف باعتبارات متعددة، وبعدها ذكر أركان استثمار الوقف وهي المستثمِر، والمال المستَثمَر، وطريقة الاستثمار.

خامساً: تحدث الباحث بعد ذلك عن ضوابط استثمار الوقف وأكد على أن استثمار الوقف يجب أن يتوافر فيه ما يشترط للاستثمار بصفة عامة، ثم يضاف لذلك ما يخص الوقف من ضوابط تتعلق بالاستثمار.

وأشار إلى تقسيم هذه الضوابط إلى:

1– ضوابط مجالات استثمار الوقف: وأشار إلى أن منها ما هو شرعي ومنها ما هو اقتصادي.

أ ـ الضوابط الشرعية: أن يكون استثمار الوقف مشروعاً بأن يخلو من أي معاملة محرمة وأن يكون مما يحقق مصلحة راجحة أو يغلب على الظن تحقيقه لها، وألا تكون مجالات استثماره مما يمكن أن يذهب بأصل الوقف، وألا تؤدي صيغ الاستثمار إلى خروج العين الموقوفة عن ملكية الواقف، وأن تكون مأمونة لا مخاطرة فيها، ونقل الباحث عن بعض أهل العلم قولهم: إن استبدال الوقف لا يجوز أن يكون بالدراهم والدنانير، بل بعقار مثله، خشية العبث بالأموال الوقفية. ورجح خلاف هذا القول جواز استبدال الوقف بغير العقار متى كان ذلك أنفع للوقف مع أمن الاعتداء عليه. ثم أضاف أخيراً أن يجتنب المستثمر للوقف كل ما فيه تهمة بأن تصرفه كان في غير مصلحة الوقف.

ب ـ الضوابط الاقتصادية: الموازنة الدقيقة بين المخاطر والأرباح من خلال السعي إلى تحقيق أعلى مستوى من الأرباح، واجتناب الاستثمارات ذات المخاطر المرتفعة. قياساً على مال اليتيم، إذ مُنع من التصرف فيه إلا بما هو أحسن. ثم أشار الباحث إلى ملحظ مهم وهو: أنه يجب ملاحظة العائد الاجتماعي مع الربح المالي؛ إذ ملاحظة العائد الاجتماعي من التثمير الأمثل للوقف، ولأنه قد تقرر في الشريعة أن مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد، وأكد الباحث أن هذه القاعدة شاملة لكل أوجه استعمال الحق في الإسلام، وليس خاصاً بالوقف فقط.

كما ذكر أن من الضوابط الاقتصادية: أن تُسبق المشاريع الوقفية الكبيرة بدراسات مستوفية للجدوى الاقتصادية، وأكد أنه يجب مراعاة مدى ارتباط دراسة الجدوى بزمن معين لئلا يؤدي تأخر تنفيذ المشروع إلى تغير النتيجة التي انتهت إليها الدراسة، وأضاف أنه ينبغي الاعتدال في النفقات المخصصة لدراسات الجدوى حيث لا تكون على حساب الغرض الأصلي للوقف.

ومع أن فضيلة الباحث يرى اقتصار دراسات الجدوى على المشاريع الوقفية الكبيرة ؛ إلا أنه ينبغي التنويه بأن أي استثمار لأموال الوقف مهما كان حجمه يجب أن يسبقه بحثٌ وتحر ومشاورة لذوي الخبرة وبذل عناية كاملة للتحقق من جدوى الاستثمار ونجاحه احتياطاً لأموال الأوقاف، كما أنه مما يؤكد ذلك عدم وجود ضابط دقيق للتفرقة بين المشروع الاستثماري الكبير أو المتوسط أو الصغير، وترك ذلك دون تدقيق قد يفتح الباب للتهاون أو التلاعب بأموال الأوقاف. ومن الضوابط المهمة التي ذكرها الباحث: أن يكون استثمار الأموال الوقفية في موجودات قابلة للتنضيض بشكل سريع إذا اقتضت حاجة الموقوف عليهم لصرفها لهم.

2– ضوابط استثمار الوقف المتعلقة بالواقف:

أ‌- أن يكون الاستثمار للوقف صادراً من الواقف أو ممن له ولاية عامة كالحاكم ونوابه، أو ناظر الوقف متى أجاز له الواقف ذلك تبعاً لما منحه من ولاية على الوقف.

ب‌- مراعاة شرط الواقف حال الاستثمار – فيما لا ضرر فيه – أما إن كان في مراعاة شرط الواقف ضرر يلحق بالوقف أو مخالفة لمصلحة شرعية أكبر، فيجب مخالفة شرطه بعد إذن الحاكم أو نائبه. وذكر الباحث مثالاً لذلك: لو اشترط الواقف ألا تؤجر العين الموقوفة أكثر من سنة، وكانت الرغبة في الاستئجار لمدة أطول فله تغيير شرط الواقف بشرط إذن الحاكم – ولعل الباحث يقصد بالرغبة هنا (رغبة السوق أو اتجاه الطلب وليست رغبة لفرد بعينه) لأن المقصود هنا مصلحة الوقف وليس رغبة فرد بعينه، فلو عبر الباحث بعبارة (وكانت المصلحة في الاستئجار لمدة أطول) لكان أحرى إن لم أكن قد غلطت في الفهم.

3– ضوابط استثمار الوقف المتعلقة بالموقوف عليهم:

أ‌- ألا توجد وجوه صرف عاجلة لتلك الأوقاف من سد الاحتياجات الضرورية للمستحقين أو الجهات التي يوقف عليها، إذ الإنفاق عليهم أولى من الاستثمار، ما لم يكن الاستثمار شرطاً للواقف. وهنا أيضاً لي تعليق: هل تكون مخالفة شرط الواقف هنا داخلة في المسألة السابقة وهي ما إذا ترتب على العمل بشرط الوقف مخالفة مصلحة شرعية أكبر؟

ب‌- يجب مع تحقق وجود المصلحة أن يُستأذن الإمام أو نائبه إن كان الموقوف عليه جهة، ما لم ينص عليه الواقف، وإذا كان الموقوف عليه معيناً فلا بد من إذنه عند استثمار الإيراد الوقفي الخاص به. ما لم يكن ترك الاستثمار يلحق الضرر بالوقف فيجب.

ت‌- إن كل غلة حصلت من عين الوقف، لا حظ للموقوف عليهم فيها بل يجب أن تُرد في عمارة الوقف، لأن حقهم في المنفعة لا العين.

4- ضوابط استثمار الوقف المتعلقة بناظر الوقف:

أ‌- إن ناظر الوقف ملزم بمراعاة الأصلح، وعليه أن يتحرى في استثماره الغبطة لأن الولاية مقيدة بذلك، وقد نبه الفقهاء إلى أن الناظر ليس له الإقرار عن الوقف، لأن مقتضى القاعدة أن الإقرار حجة قاصرة.

ب‌- إنه لا بد للناظر من إذن الحاكم أو نائبه عند الاستثمار.

ت‌- إن أول واجب على الناظر هو عمارة الأعيان الموقوفة، وإنها مقدمة على الصرف إلى المستحقين سواء نص عليه الواقف أم لا. لأن عمارة العين الموقوفة سبيل لحفظها وبها يحصل دوام الانتفاع بها.

ث‌- إنه لو قصَّر الناظر ضَمِن.

ج‌- إنه إذا اعتدى الناظر على الوقف بخيانة أو تعد وجب عزلُه – ولو كان الواقف – وتعدي الواقف أحياناً يكون إذا تصرف بقصد الرجوع عن وقفه أو التحايل على ذلك، فإنه يعزل، وفي هذا غاية الحماية للوقف.

5- ضوابط استثمار الوقف المتعلقة بالعين الموقوفة: وذكر الباحث منها أنه يجوز للناظر تغيير صورة الوقف إلى صورة أصلح منها. كالانتفاع بالأرض في الزراعة بدل السكن ونحو ذلك.

سادساً: تطرق الباحث أيضاً للعوامل المؤثرة في استثمار الوقف فذكر تحت هذا الموضوع عدة فوائد جليلة منها:

1- إنه مع التسليم بوجوب المحافظة على الوقف وعدم تعريضه للمخاطرة حال استثماره، إلا أن منع استثمار الوقف مع احتمال المخاطرة ليس مطلقاً، إذ لا يخلو استثمار عن مخاطرة ؛ وإنما المراد المخاطرة المتحققة أو الغالبة التي يقدرها أهل الخبرة والمتخصصون.

2- مسألة ملكية العين الموقوفة حسب الخلاف فيها، أشار الباحث إلى تأثيرها على استثمار الوقف – وبعد أن اختار أن الراجح في هذه المسألة هو القول بأن العين الموقوفة تخرج عن ملك واقفها وتصير إلى حكم ملك الله تعالى – أورد بعد ذلك بعض أوجه تأثير هذه المسألة في استثمار الوقف.

3- أثر التأبيد في الوقف والتوقيت فيه حسب الخلاف في مدى مشروعية وقوع الوقف مؤقتاً، وأكد الباحث رجحان قول جمهور الفقهاء بأن التأبيد شرط في الوقف، وأن القول بذلك من أعظم وسائل عمارة الأوقاف وصيانتها واستثمارها.

4- أثر الوقف على جهة أو على مُعيّن في استثمار الوقف، حيث إذا كان الوقف على معين لم يجز التصرف بالاستثمار في ريعه إلا بإذنه، بخلاف الوقف إذا كان على جهة فيجوز استثمار عين الوقف وريعه بما يحقق المصلحة للوقف والموقوف عليه، دون استئذان من يدخل ضمن الجهة الموقوف عليها.

5- أثر شرط الواقف في استثمار الوقف، حيث إن مراعاة إرادة الواقف من خلال العمل بشرطه مما لا يختلف الفقهاء على اعتباره، ما لم تخرج هذه الشروط عن مقاصد الوقف ذاته. وشروط الواقفين على اختلافها قد تتضمن ما يؤثر في استثمار الوقف. وأكد الباحث في هذه المسألة أن العبرة بما يحقق مصلحة الوقف، وأن كل شرط يخالف ذلك لا يجوز الأخذ به.

6- أثر استبدال الوقف في استثماره، وبعد أن قرر الباحث هنا اتفاق الفقهاء على منع استبدال الوقف الذي يلحق الضرر به أو لا تتحقق المصلحة فيه ، أشار إلى أن الفقهاء اختلفوا في استبدال الوقف فيما عدا ذلك ما بين من يرى جواز استبدال الوقف وإن لم تتعطل منافعه متى كان في ذلك مصلحة له. ومن يرى عدم جوازه إلا إن تعطلت منافعه بالكلية، ومن يرى المنع من استبداله مطلقاً، سواء تعطل أم لم يتعطل. ثم انتهى الباحث إلى ترجيح القول بجواز استبدال الوقف وإن لم يتعطل متى كان في ذلك مصلحة راجحة له، معللاً ذلك بأن المقصود من النهي الوارد في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن بيع الوقف وهبته وإرثه إنما يقصد به المنع من انقطاع الوقف بأي صورة، أما البيع الذي يقصد منه تثمير الوقف والانتقال إلى بدل خير من العين الأولى فلا ينبغي أن يدخل في المنع. وقرر الباحث بعد ذلك أن الاستبدال المحقق للمصلحة هو إحدى أهم صور الاستثمار الوقفي، وهذا يظهر الارتباط الوثيق بين الاستبدال والاستثمار في الوقف.

7- تحدث الباحث أيضا عن أنواع الموقوف فذكر أن التوسع في إجازة وقف صور متعددة من الأموال، وعدم اقتصارها على صور محددة يفتح الباب لجميع أفراد المجتمع للمشاركة في إقامة أوقاف متعددة، ويوافق ما تتشوف إليه الشريعة من كثرة الأوقاف. ثم أورد صوراً منها:

أ‌- وقف العقار: لم يختلف الفقهاء – رحمهم الله – في صحة وقف العقار؛ إنما اختلفوا في صور متعددة ملحقة به, منها:

– وقف المرهون: يجوز وقفه بإذن المرتهن، أما بغير إذنه فلا يصح على الراجح.

– وقف المشاع: اختار الباحث بعد عرض خلاف الفقهاء القول بصحة وقف المشاع مطلقاً.

– وقف الاقطاعات: فذكر أنه يجوز وقف الاقطاعات بأنواعها الثلاثة: (إقطاع التمليك، وإقطاع الاستغلال، وإقطاع الإرفاق).

– وقف الأرصاد: وهو ما يقطعه الإمام على مصلحة المسلمين، أو على من لهم استحقاق في بيت المال، وقد رجح الباحث هنا نفاذه وصحة وقفه – لكنه لم يشر لأقوال الفقهاء ولا لأدلتهم حتى يتمكن القارئ من الحكم على هذا الترجيح.

ب‌- وقف الأموال النقدية: بعد أن ذكر أقوال الفقهاء وخلافهم في هذه المسألة رجح الباحث القول بجواز وقف الأموال النقدية، قائلا: ولا سيما في زمن ازدهرت فيه الصناعات المالية التي تتميز بكثرة أرباحها، ومحدودية أخطارها.

ت‌- وقف الأسهم: فذكر جواز وقف الأسهم بثلاثة ضوابط:

– أن تكون أعمال الشركة التي يراد وقف شيء من أسهمها مباحة.

– أن تكون الأسهم الموقوفة جائزة كالأسهم العادية.

– أن يكون الواقف مالكاً لهذه الأسهم – وهذا معلوم بداهة.

ث‌- وقف أموال الزكاة: ونبه الباحث إلى أن القول في هذه المسألة متفرع عن مسألة استثمار أموال الزكاة، وهذا ما وقع فيه الخلاف بين الفقهاء المعاصرين، وبعد أن أورد الباحث هذه الأقوال وأدلتها رجّح القول بجواز استثمار وقف أموال الزكاة بمعنى استثمارها في صور وقفية.

ج‌- وقف المال الحرام: وهنا أشار الباحث إلى أن المال الحرام متى عُرف مالكه وجب ردّه إليه ولم يجز وقفه بحال، أما إن لم يعرف مالكه أو كان مما لا مالك له، فيصح وقفه على حاجات المسلمين بنية التخلص منه لا بنية القربة، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

ح‌- وقف المنافع: واختار الباحث جواز وقفها لما في ذلك من التوسيع على الناس وتيسير سبل الخير لهم وإيجاد صور وقفية تناسب العصر.

خ‌- وقف الحقوق: وهي وإن كانت منافع أصلاً إلا أن الباحث أورد هنا صوراً خاصة منها لأهميتها وهي:

– حق الارتفاق: وهو حق مقرر على عقار لمنفعة شخص أو عقار لآخر. وأجازه الباحث بشرط أن يكون بقدر ما يملكه الواقف لئلا يلحق الضرر بغيره.

– وقف حق الابتكار: ومن ذلك حقوق الملكية الأدبية أو الصناعية أو العلامة التجارية أو الاسم التجاري، وغيرها من الحقوق المعنوية مما تتضمن منافع مملوكة لأصحابها ومتقومة بالمال فيجوز وقفها.

8- أثر الضمان في استثمار الوقف: من المتقرر أن يد الناظر على الوقف يد أمانة فلا يضمن تلفه إلا إذا فرّط أو تعدى. وهذا الحكم له أثر في فتح باب الاستثمار والتطوير للأوقاف.

9- تحدث الباحث أيضاً عن مسألة غاية في الأهمية وهي التأمين على الوقف وأثر ذلك في استثماره، وذكر ضوابط لجواز التأمين التعاوني على الوقف، ثم أكد أن غالب صور التأمين الموجودة هي من قبيل التأمين التجاري، ولا تلتزم بضوابط التأمين التعاوني، وإن تسمت بهذا الاسم. لذا فلا بد من التحقق من مشروعية التأمين عند اللجوء إليه بعد توافر الضوابط التي ذكرها. كما أكد الباحث هنا أن الوقف أصلا إنما هو تأمين تعاوني في حد ذاته.

سابعاً: تحدث الباحث بعد ذلك عن الحقوق المتعلقة باستثمار الوقف في أربع مسائل هي:

1- أجور العاملين في استثمار الوقف فذكر أنه يجعل للعامل أجرة المثل ما لم ينص الواقف على أكثر منها، كما توضع مكافآت تحفيزية لمن يكون عملهم الاستثماري مؤثراً.

2- تكاليف التشغيل والصيانة لاستثمار الوقف: وأشار إلى تقسيم هذه التكاليف إلى قسمين:

– تكاليف ضرورية لو أخرت لأدت لخراب الوقف أو تضرره، وهذه يجب على الناظر القيام بها ولو كانت أجورها من عين الوقف لا ريعه، ولو اقتضى الأمر بيع جزء من الوقف لحفظ بقيته ارتكاباً لأخف المفسدتين.

– تكاليف غير ضرورية، يتم تكميل الوقف ولا يؤدي تأخيرها إلى ضرر أو خراب، فهذه يسعى الناظر للقيام بها لما يحققه ذلك من تنمية الوقف.

3- زكاة الأموال المستثمرة في الوقف: وهنا فرّق الباحث بين حالتين هما:

– أن يكون المال الموقوف المستثمر غير داخل في ملك معين: فهنا ليس فيه زكاة لأنه لا مالك معين له يخاطب بوجوب الزكاة، خاصة إذا كانت الجهة الموقوف عليها مستحقة للزكاة.

– أن يكون المال الموقوف المستثمر داخلاً في ملك معين أو مآله إلى ذلك: فينظر إلى بقية شروط الزكاة فإن توافرت وجبت عليه الزكاة.

4- اقتطاع جزء من ريع الوقف يخصص لاستهلاك رأس المال: وأشار إلى أن حفظ الوقف لما كان من أعظم الواجبات على النظار والولاة، فإن من الوسائل المهمة لحفظه ما نبّه إليه الاقتصاديون من اقتطاع جزء من ريع الوقف يخصص لاستهلاك رأس المال، وهذا لا يشمل نفقات الصيانة وإنما حجز جزء من عائدات الوقف لنقص أو تلف يظن وقوعه على رأس المال. واستدل على ذلك بأدلة شرعية منها: أن المصلحة المرسلة للوقف تقتضي تنظيم متطلباته باستخدام مبدأ الإهلاك، وأن من القواعد المرعية النظر في المآل، واستدل على ذلك أيضاً بما ورد في قصة نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ بما حكى الله عنه بقوله: (قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون) الآيات. وقال الباحث: فلما جاز ادخار الأقوات وهي قوام معيشة العباد؛ صح ادخار جزء من الأموال الموقوفة إلى وقت الحاجة. وذكر أن الأخذ بذلك ينبغي أن يكون بضوابط أبرزها: (أن يحكم أهل الخبرة من الاقتصاديين والمعماريين بضرورة ذلك في الحفاظ على المنشأة، وأن يحددوا مقدار ما يتم تخصيصه. وألا يضر بالموقوف عليهم أو تكون حاجتهم عاجلة، وأن يُستثمر هذا الجزء المقتطع في استثمارات ذات مخاطر منخفضة وسهلة التسييل).

ثامناً: تحدث الباحث تفصيلاً عن حكم استثمار الوقف مستعرضاً صور ذلك وأشار إلى أن منها ما أجمع العلماء على جوازه، ومنها ما أجمعوا على منعه، ومنها ما اختلفوا فيه:

– فما أجمعوا على جوازه كإجارة الوقف المحققة للمنفعة، واستبدال ما تعطل من الأوقاف بالكلية عند عامة الفقهاء.

– وما أجمع على منعه هو كل ما يلحق الضرر بالوقف ولا يحقق مصلحة من سائر التصرفات.

– وما اختلف فيه فهو ما يحقق مصلحة للوقف وليس من العقود المتفق على جوازها مثل غالب الصور الاستثمارية المعاصرة.

ثم انتهى الباحث إلى القول بمشروعية استثمار الوقف من حيث الجملة مع مراعاة بحث كل صورة على حدة والتحقق من توافر ضوابط استثمار الوقف فيها.

وفي الجزء الثاني من البحث تحدث الباحث تفصيلاً عن أحكام الصور القديمة والمعاصرة لاستثمار الوقف ثم أشار لتطبيقات معاصرة لاستثمار الوقف.

إلا أنه لما كان استعراض ذلك لا يتسع له مثل هذا المقام، خاصة أن إيجازه قد يسلب المسألة فائدتها المرجوة منها، لذا آثرت الاكتفاء بما سبق راجياً أن يتفضل الباحث بتقديم ما تبقى من مسائل البحث (والتي تعتبر هي الجزء الأهم منه) في سلسلة مقالات صحفية في جريدتنا المباركة جريدة «الاقتصادية»، وقد وعدني فضيلته بذلك فأسأل الله أن يعينه على الوفاء بوعده، وأن ينفع به. والحمد لله أولاً وآخرا.

المصدر / صحيفة الاقتصادية الالكترونية