شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

النظرة الاجتماعية لإنشاء الهيئة العامة للأوقاف

 

النظرة الاجتماعية لإنشاء الهيئة العامة للأوقاف 

د. عبد الله بن ناصر السدحان

الجمعة 23 / جمادى الأولى / 1431 هـ     7 / مايو / 2010 م

 

يعتقد الكثير أن الدافع التنظيمي والاقتصادي هو المحرك الأساس لإنشاء جهاز إداري جديد يعنى بالأوقاف في المملكة العربية السعودية، وكل ذلك له وجه كبير من الصحة، ولكن مما قد يغيب عن بال البعض من المتابعين لمثل هذه القرارات التنظيمية التي يتوالى صدورها في المملكة العربية السعودية تحقيقاً لمسيرة تحديث الجهاز الحكومي وتطويره على يد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله وولي عهده، هو تضمن مثل تلك القرارات الكبرى للبعد الاجتماعي، بل قد يكون هو دافعها الأبرز، ولكنه ليس هو الأظهر لسبب رئيس هو أن الآثار الاجتماعية المترتبة على الأوقاف لا تبدو للعيان سريعاً، ويتأخر ظهورها عقوداً طويلة لكي نتمكن من رؤيتها، وإلا فهناك أكثر من خمسة عشر أثراً اجتماعياً للأوقاف سبق للكاتب رصدها في أحد الأبحاث المنشورة في مؤتمر علمي، حيث ساعد الوقف على تحقيق الاستقرار الاجتماعي وعدم شيوع روح التذمر في المجتمع وذلك بتحقيق نوع من المساواة بين أفراده، كما تمكن نظام الوقف بما يمتلكه من مرونة من بسط مبدأ التضامن الاجتماعي وشيوع روح التراحم والتواد بين أفراد المجتمع وحمايته من الأمراض الاجتماعية، كما أنه أدى إلى تعزيز روح الانتماء المجتمعي بين أفراد المجتمع وشعورهم بأنهم جزء من جسد واحد تحقيقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه البخاري حيث يقول فيه صلى الله عليه وسلم : (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). وهذا الشعور بالانتماء يشمل الطرفين الواقف والمستفيد من الوقف، فالواقف استشعر دوره المناط به في المجتمع وخصص جزءاً من ماله لسد حاجة من حاجات المجتمع. والمستفيد من الوقف يستشعر بعين التقدير مدى حاجته للانتماء لجسد المجتمع الواحد الذي قام أثرياؤه بإسعاد فقرائه من خلال نظام الوقف، وهذا الشعور بالانتماء موضوع مهم لتحقيق الوحدة الوطنية في المجتمع الواحد.

ولا يكاد يوجد جانب من جوانب الحياة في المجتمع إلا وله صلة بنظام الأوقاف من قريب أو بعيد، بل إن الأوقاف عمل اجتماعي، دوافعه في أكثر الأحيان اجتماعية وأهدافه دائماً اجتماعية، فالأوقاف الإسلامية في الأصل عمل اجتماعي بل يمكن اعتبار البعد الاجتماعي والجوانب الخيرية في الغالب هي المرتكز التي تؤسس عليها الأوقاف، حيث نجد أن معظم الواقفين ينصون في حججهم الوقفية على مساعدة الفقراء والمساكين حتى ولو كان وقفهم لأغراض أخرى، ونظراً لهذا الجانب الإنساني نص الفقهاء على أن كل وقف لم يذكر فيه الواقف مصرف غلته يؤول إلى الفقراء والمساكين.

إن الحاجة اليوم تزداد بشكل كبير إلى تفعيل دور المؤسسة الوقفية لتأخذ دورها العملي في شتى المجالات، فنظام الوقف مصدر مهم لحيوية المجتمع وفاعليته وتجسيد حي لقيم التكافل الاجتماعي وترسيخ لمفهوم الصدقة الجارية برفدها الحياة الاجتماعية بمنافع مستمرة ومتجددة تتنقل من جيل إلى آخر حاملة مضموناتها العميقة في إطار عملي يجسده وعي الفرد بمسؤوليته الاجتماعية ويزيد إحساسه بقضايا مجتمعه، ويجعله في حركة تفاعلية مستمرة مع همومه الجزئية والكلية.

ومن هنا لا عجب أن نجد ذلك الاحتفاء الكبير بصدور الموافقة الكريمة على إنشاء الهيئة العامة للأوقاف، حيث يمثل هذا القرار الحس التراحمي للدولة بمكوناتها الإدارية من خلال البذل الوقفي تنظيماً وتطويراً ليس في كيانها الإداري فحسب، بل حتى في أهداف ذلك الكيان الإداري الجديد، فقد نص قرار إنشاء الهيئة على أنها تهدف إلى: اقتراح الخطط والسياسات العامة والأنظمة المتعلقة بنشاط الأوقاف وتنفيذها بعد إقرارها ومراجعتها وتقويمها والعمل على تطويرها وتحديثها. إضافة إلى استثمار الأوقاف على أسس اقتصادية وبأساليب تجارية بقصد حفظها وتنميتها. والجديد في ذلك التوكيد على كونه استثماراً على أسس اقتصادية وبأساليب تجارية، فالنظرة تتواكب مع التغيرات الاقتصادية التي يمر بها المجتمع المحلي والخارجي فلم يعد الأمر مجرد تثمير الأوقاف، بل دخل العنصر التجاري الذي يضمن استمرار منفعة الأوقاف، وأعيانها وتحقيق الموازنة بين المنفعة الاجتماعية والمنفعة الاقتصادية وهي معادلة حرجة، وبكل حال فإن نتائج غلبة كل منفعة على الأخرى وخيمة فالتركيز على المنفعة الاقتصادية أي تزايد دخله ورصده دون صرف اجتماعي يتناسب مع ريع الوقف يؤدي إلى خروج للوقف عن أصل الوقف وأسه وهو فيضان خيراته على المجتمع وعلى الفئات المراد لها أن تنتفع من الوقف في المجتمع، كما أن رجحان المنفعة الاجتماعية في تلك المعادلة أي تزايد تقديم الوقف لخدماته دونما نظر لتزايد حجم الاستهلاك والإهلاك لأصل الوقف حتى وإن كانت تعني زيادة الرفاه الاجتماعي، إلا أنها تعمل بالضرورة على ضعف المنفعة الاقتصادية وبروز الخطر على بقاء دوام غلة الوقف، فضلا عن احتمالية ذهاب أصله وبالتالي اندثاره، وهذا ما يُعتقد أن يكون من الأمور المرعية في عملية الاستثمار على أسس تجارية في المؤسسة الوليدة.

كما أن النص في أهداف الهيئة على حصر الأموال الموقوفة وتسجيلها باستخدام أفضل الأساليب والنظم التقنية المتاحة وإنشاء قاعدة بيانات للأوقاف يؤكد الحرص من الدولة – وفقها الله – على الجدية في استمرار الأوقاف في أداء رسالتها وعدم تركها لعوادي الزمن أو أيادي العابثين فيها ممن أسهموا بشكل أو بآخر في اندثار العديد من الأوقاف وبخاصة أنه ورد فيما ورد في أهداف الهيئة الإشارة إلى منع أي تعد عليها.إن مما يؤكد التوجه نحو إضفاء الثوب الاجتماعي على أعمال الهيئة ما نص عليه قرار الإنشاء من أن لها مجلس يدير أعمالها برئاسة معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد وعضوية ممثلين لعدد من الجهات الحكومية وغير الحكومية، فدخول المهتمين من خارج المنظومة الحكومية يعطي الإشارة بالرغبة في المشاركة المجتمعية في صنع قرار الأوقاف وإدارتها على مستوى المملكة. وذلك تحقيقاً لعملية تكاملية في التنمية بين القطاع العام والخاص والسعي الحقيقي لإشراك القطاع الأهلي في عملية التنمية الشاملة باعتباره الشق الآخر المهم من عملية التنمية المستدامة فضلا عن كون النجاح في إشراك القطاع الأهلي في التنمية يُعدُ نجاحاً للتنمية ذاتها، وهو فرصة لإثبات إمكانية إيجاد مثل هذه الجهود التنموية بين القطاعين في صورة تكاملية وليست تنافسية، وأن ذلك ممكناً من خلال نظام (الوقف). ولا يسع المتابع لموضوع الأوقاف الراغب في تطويرها لمواكبة العصر الذي تعيشه إلا أن يقول لخادم الحرمين شكر الله لكم كريم الموافقة، ولمعالي الوزير لا حرمكم الله أجر هذا المشروع الذي تبنيتموه حتى خرج إلى النور، وهنيئا للمجتمع هذه الهيئة التي سيكون لها من الأثر الاجتماعي ما يجعلها قادرة على إعادة تشكيل بعض جوانب المجتمع من خلال الوثائق الوقفية وصياغتها، ومصارف تلك الأوقاف التي تعد المملكة الأبرز فيها على مستوى العالم الإسلامي ولله الحمد.

وأعتقد أن الهيئة مقبلة على مهام جسام هي أهل للقيام منها ومن ذلك طرح الأوجه الجديدة من المصارف التي يحتاجها المجتمع بشكل أكبر سواءً كانت من الاحتياجات التي تعمل على تحقيق إشباعات مباشرة للمجتمع أم كانت من الاحتياجات التي تكون منفعتها بشكل غير مباشر وعلى آماد طويلة، وذلك من خلال استقطاب أوقاف جديدة لساحة الخير في المجتمع من خلال حملات إعلامية متتابعة ومتطورة ورصد مسحي وعلمي إحصائي لاحتياجات المجتمع من مختلف الجوانب الشرعية والاجتماعية والتربوية والصحية والبيئية وطرح أوجه جديدة من المصارف الوقفية التي يحتاجها المجتمع على المدى البعيد والمتوسط والقصير، والتسويق لها وفق قواعد التسويق العلمية التجارية. فضلا عن الترويج الإعلامي للمصارف الوقفية المبتكرة قديما وحديثا فإن تناولها مما يغري الواقفين ويجعلهم يقدمون على التعامل مع الوقف بعيدا عن الصورة الذهنية السلبية السائدة. ولعل إنشاء الهيئة يكون عاملا مسرعا لعملية تحويل عمليات الوقف من مبادرات فردية إلى عمل مؤسسي منظم من خلال إنشاء صناديق وقفية متخصصة مما تندرج ضمنها الأوقاف القائمة حالياً، وما يستجد من أوقاف في إطار واحد تحدده شروط الواقفين، وتكون وفقا لحاجة المجتمع، وفي ذلك تصحيح لما يسود لدى بعض أفراد المجتمع من صورة ذهنية سلبية ومشوشة عن الوقف تتمثل في النظر للوقف على أنه مقتصر على مجالات دينية بحتة كالمساجد وعشاء الوالدين والحج عنهما فقط.

ولعله من نافلة القول الإشارة إلى التوجه المنفتح والمتزن لمعالي الوزير ورئيس مجلس إدارة المؤسسة معالي الشيخ صالح آل الشيخ، ورغبته الشديدة في تطوير الأوقاف، وأن ذلك سيدعوه إلى تطبيق الحديث الذي يُروى عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) من خلال الإفادة من خبرات الجمعيات والهيئات الإنسانية الإسلامية والعالمية في مجال العمل الخيري والتطوعي المشابه للعمل الوقفي، سواء كانت إسلامية أو غربية، على أن يكون ذلك في ظل ما يوافق الأحكام الشرعية، ولا يخرج عن حدودها المشروعة، والسعي لإبرام مذكرات تعاون مشترك بين المؤسسات الوقفية وبين الجمعيات ذات التجارب والخبرات المحلية، والإقليمية، والدولية، لتنمية قدرات المؤسسة الوقفية في ميدان التعامل مع المجتمع في مختلف المجالات المرتبطة بحياتهم، وما تتطلبه المواقف عند الحاجة؛ لأن التطورات الحالية السريعة تستدعي استغلال جميع السبل المشروعة لتطوير مؤسسة الوقف من حيث إدارتها وأدائها في الواقع.

الوكيل المساعد للضمان الاجتماعي
المصدر / صحيفة الجزيرة