الوقف الخيري .. حل إسلامي لمشكلات اقتصادية اجتماعية
أحمد عباس
الثلاثاء 11 / محرم / 1428 هـ 30 / يناير / 2007 م
الوقف الخيري أحد النظم الاقتصادية التي لا يعلم كثيرا من المسلمين شيئا عنه ويعكس هذا النظام ما غرسه الإسلام في نفوس أبنائه من حب الخير ومحاربة شح النفوس. فرأينا مئات وآلاف الخيّرين الذين يوقفون أموالهم كلها أو جزء منها على الدعوة الإسلامية، أو على طلاب العلم ،أو على مجموعة من المساكين والفقراء، وكانت هذه الأوقاف تتمثل في الأراضي الزراعية والعقارات والمحلات وغيرها. إلا أنه مع تغير ظروف مجتمعاتنا وصل الأمر إلى حد اختفاء وإلغاء الأوقاف الخيرية في ظل الظروف الاقتصادية غير المواتية واتساع الفجوة بين الطبقات وازدياد أعداد الفقراء والمحتاجين
فلسفة الوقف
لكن الكثير منا يجهل معنى الوقف اساسا والوقف كما يقول د. سيد دسوقي الأستاذ بجامعة القاهرة والمفكر الإسلامي إن منظومة الأعمال والأنشطة في أية دولة تتجه مع مرور الوقت إلى الجمود والجنوح إلى منطقة الأمان الاقتصادي بعيدًا عن الأعمال الريادية التي من شأنها أن تجدد شباب الأمة، والتي تحتاج بطبيعتها إلى روح المجازفة الحالمة. وفي مثل هذه الظروف تلعب فكرة الوقف دورًا أساسيًا في اجتياز حواجز الخوف الاقتصادي حيث تتيح المشروعات رصيدًا ماليًا يأخذ بيدها في أول الطريق ،ولا يخفى علينا الدور الكبير الذي قامت به فكرة الوقف في تاريخنا الإسلامي والخدمات الجليلة التي أدتها الأوقاف لمختلف مجالات الحياة.
والوقف نوعان : نوع سلبي متآكل كمن يوقف دارًا للفقراء فتبلى الدار مع الزمن وتنتكس قيمة النقود ويؤول الوقف في النهاية إلى لا شيء.
وهناك نوع من الوقف ينمو مع الزمن ويشب مع الأيام كمن يوقف المال على عمل إنتاجي من شأنه أن يساعد الناس على امتلاك قدرات إنتاجية يزيدون بها وقفهم ويجددون بها حياتهم. أو من ينفق المال ويوقفه حتى يمتلك الناس أدوات الإنتاج أو يمتلكون عملاً منتجًا أو خبرة أصيلة ،أو يحمل لهم أهل الخبرة من بلاد أخرى لينقلوا لهم خبرات بلادهم ، وكل ذلك يهدي في ميدان الحضارة إلى صراط مستقيم… وما نبتغيه هو وقف من النوع الثاني.
نوع منتج وليس نوعًا سلبيًا .. ونحن ندرك أن كثيرًا من أهل الخير في بلاد المسلمين يوقفون أموالهم على النوع السلبي وقليل منهم يوقف على النوع الثاني.
ويضيف د. سيد دسوقي إنه إذا كانت الحكومات والمؤسسات الرسمية تعاني مشكلات اقتصادية كبيرة لا تستطيع معها تحقيق ما يصبو إليه الناس فالمفترض أن يتدخل أهل الخير لحل هذه المعضلة ويقدموا لمجتمعاتهم وينفقوا من أموالهم .. ولكن أين هم أهل الخير في بلاد المسلمين ؟ لقد انقطع زادهم فلم يعودوا ينفقون في أعمال الخير إلا قليلاً. وربما نعجب أنه في بلاد الفرنجة حيث يظن الناس أن الرأسمالية تنشب أظفارها .. لكننا نجد أن آلاف من المحسنين هناك يوقفون أموالهم على هذه الأعمال الخيرية .. وكل يوم تنشأ في بلادهم جمعيات خيرية لتنمية صناعات بعينها أو تعمل على ازدهار جامعات ومراكز بحوث علمية وتطبيقية. وعلى مستوى العالم توجد تسعون ألف جمعية خيرية منها اثنان وعشرون ألفاً في الولايات المتحدة وحدها تنفق ما يزيد على ثلاثين مليار دولارًا كمنح بحثية لتطوير العلوم والتكنولوجيا. ونحن – المسلمين – لا ملجأ لنا من القهر العالمي إلا أن نسعى بكل ما نملك لإيجاد الوقف الذي يساعد على الابتكارات وتنميتها.
رافد هام
ويقول د. علي أبو المكارم عميد كلية دار العلوم السابق إن الأوقاف الخيرية تمثل في التاريخ الإسلامي رافدًا مهمًا من روافد بناء المجتمع والفرد معًا لأنها كانت تتيح للمجتمع الحصول على المال بوسائل اختيارية لتحقيق المصالح العامة كتعليم الطلبة والإنفاق عليهم خلال مرحلة دراستهم أو إنشاء المستشفيات أو الملاجيء فيما كان يسمى ‘بالتكايا’. وكرصد الأموال لخدمة بيوت الله وتعميرها أو لمساعدة المحتاجين في كافة المجالات. ومعنى هذا أن الأوقاف الإسلامية بصورتها الصحيحة تتيح المساهمة الفعالة لأفراد المجتمع وتمكن المجتمع بالتالي من تحقيق التوازن الضروري في مجالات الإنفاق. ولقد كان ذلك كله سبيلاً للأفراد كي يشعروا بالرضا عن أنفسهم إذ ينفقون في سبيل الله ويخففون عن إخوانهم من الضعفاء والمحتاجين.
ومن الثابت تاريخيًا أن المساجد في العالم الإسلامي كانت تتلقى ريع ما يوقف عليها من عقارات وأراضٍ شأنها في ذلك شأن المستشفيات والتكايا وكان ذلك هو الذي يسر للمسلمين تقديم هذه الخدمات العامة منذ صدر الإسلام إلى مطلع أو أواسط القرن العشرين. وأظن أن إلغاء هذه الأوقاف والاستيلاء عليها قد ترتب عليه إحجام المسلمين القادرين على القيام بدورهم الذي قاموا به على مدى التاريخ .. وأحسب أن ذلك خطأ لا مفر من الاعتراف به ، لأنه حال دون مشاركة هؤلاء المسلمين مشاركة منظمة في رعاية مجتمعاتهم.
وليس صحيحًا ما يقال من أن الجهود الذاتية تستطيع أن تقوم بهذا الدور لأن هذه الجهود تفتقد الأساس الديني الذي يعطيها التجرد والفاعلية. وأرى أنه من الواجب الآن إعادة النظر في مسألة الأوقاف خصوصًا وأن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تستدعي مزيدًا من المشاركة الجماهيرية وتقتضي من القادرين المساهمة الإيجابية في حل مشكلات المجتمع .. ولن يكون ذلك ممكنًا بصورة فعالة ونشطة إلا عن طريق الأوقاف الخيرية لأنها هي التي تمكن المسلم القادر من أن يضع أمواله في خدمة بيئته المحيطة به ومن أن يضمن استمرار الإنفاق منها بالشروط التي يراها دون أن تتدخل في ذلك إرادة الأجهزة الرسمية وما يعنيه ذلك من البيروقراطية.
فالاهتمام بالأوقاف الخيرية يمكن أن يترتب عليه في المستقبل كما ترتب عليه في الماضي اهتمام بأنماط معينة من التعليم أو بأشكال محددة من الرعاية الاجتماعية .. وهذا كله يتيح الفرصة بصورة إيجابية للحركة الاجتماعية لكي تحقق غايتها في إقرار السلام والطمأنينة بين أفراد المجتمع .. وهذا بالطبع غير ما يطالب به المسلم من الزكاة وما يجب عليه من الصدقات. وهكذا فإن الأوقاف الخيرية إضافة من إضافات التشريع الإسلامي لحل المشكلات الاجتماعية وتحقيق التوازن النفسي بين أفراد المجتمع من ناحية وبين الفرد والمجتمع كله من ناحية أخرى.
إنكار للذات
أما د. أحمد عبد الرحمن أستاذ الفلسفة الإسلامية فيقول : إن المسلمين الأوائل كانوا أذكياء حينما كانوا يوقفون أموالهم في شكل أراضٍ أو عقارات .. فالأرض لا تتبدد ولا يستطيع أحد أن يسرقها .. بينما لو كان الوقف في مشروعات تجارية لامتد إليها النهب والاختلاس. ونحن في هذه الأيام يجب أن تتكامل دعواتنا التربوية مع الإعلام والقيم السائدة في المجتمع. فالإعلام والفنون الموجودة الآن تخاطب الغرائز وتشجع على الأنانية وحب الذات .. أما العمل التطوعي فهو إنكار للذات وفيه حب الخير للناس .. والأوقاف الخيرية الإسلامية هي قمة العمل الخيري التطوعي الخالي من الأنانية.
ففي مجال التدابير الوقائية في الإسلام أو فيما يخص النواحي الأمنية فإننا نقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول هو الإنسان الذي يعمل لنفسه على حساب الآخرين ويؤذيهم فهو يقتلهم ويسرقهم، والقسم الثاني هو الإنسان الذي يعمل لنفسه ولا يؤذي غيره ولكنه ليس على استعداد لمساعدتهم ، والقسم الثالث هو الإنسان الذي يعمل لنفسه ويساعد الآخرين.
وإذا تكاملت الأجهزة في المجتمع لتحبيذ النوع الثالث والعمل على انتشاره فسوف يؤدي ذلك إلى تقليل الجريمة واختفاء القضايا أمام المحاكم واختفاء الغش والتزوير والرشوة والتقاعس عن العمل وكلها مظاهر أنانية.
وهكذا فالوقف عمل متعدد الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والأمنية والتربوية .. فما أجمل أن يشعر الإنسان أنه يخدم الآخرين ويساعدهم ويخفف عنهم وما أعظم أن يشعر الإنسان أنه ذو قيمة في مجتمعه.
قالوا عن الوقف
أما د. محمد راغب أستاذ التاريخ الإسلامي فيقول إن البروفيسور اليهودي إسحاق رايتر ألَّف كتابًا عن نظام الوقف الإسلامي يقول فيه : إنه نظام مهم جدًا ولا يوجد مثله في العالم .. فهو يسمح بتداول الثروة .. هذه المعضلة التي استعصت على كل النظريات والفلسفات والثورات ويتعجب هذا الأستاذ اليهودي من تصفية هذا النظام الإسلامي المتميز بأيدي المسلمين أنفسهم.
ويضيف د. محمد راغب أن نظام الوقف الإسلامي يمكنه المساعدة الفعالة في مجال التعليم حيث يمكن وقف مدارس بكامل تجهيزاتها وكذلك عمارات كاملة لإسكان الطلاب .. كما يمكن أن يساعد نظام الوقف في منع تضخم الثروة وظهور الاحتكارات التي تعصف بالفقراء والمساكين. وقد ثبت بالتجربة أن التدخل الرسمي للدولة لا يجدي بل يدمر نظام الوقف.
ليتنا نفكر في إعادة نظام الوقف مرة أخرى فهو حل عبقري لكثير من مشكلاتنا وهو في نفس الوقت حل ذاتي وغير مستورد وغير مكلف.
ويؤكد د. رفعت العوضي أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر أن إحياء شعيرة الوقف سيؤدي إلى تخفيف العبء عن الموازنة خاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وأن مجالات الوقف غير محددة ويمكن أن تشمل إقامة الصناعات الحرفية ومراكز التدريب علي الحرف والكمبيوتر والبحث العلمي وإقامة الطرق والمرافق, خاصة أنه لا يقتصر علي العقارات والأراضي ولكنه يمتد إلى الأموال المنقولة بل والخدمات.
فالوقف صدقة خيرية ذات تميز واضح كاستثمار مستمر, وهو يبعد الصدقة عن الاستهلاك خاصة أن مشكلة الأعمال الخيرية أنها تزيد الاستهلاك بينما الوقف لبناء مدرسة أو مستشفي أو طريق هو عمل خيري استثماري, وأن الوقف هو صانع الحضارة الإسلامية وانه كان السبب لعدم قيام وزارات للصحة والتعليم والبيئة والشئون الاجتماعية في عدد من الدول الإسلامية إلى عهد قريب لقيامه بوظائف تلك الوزارات.
ويشير د. العوضي إلى وجود فوضي حاليا بسوق الاستثمار في التعليم الخاص حيث يسترد رأس المال خلال ثلاث سنوات وهذه الربحية العالية مؤشر غاية في السلبية حتى إن إحدى الجامعات الخاصة حققت أرباحا غير موزعة مقدارها 200 مليون جنيه في عام واحد, بينما نجد أن جامعات غربية كثيرة مثل أكسفورد وكمبردج وهارفارد تقوم علي نظام الوقف.
ويقول د. رفعت العوضي إن توني بلير رئيس الوزراء البريطاني قد نجح في قيادة حزب العمال البريطاني من خلال برنامج الطريق الثالث وكان كلينتون من أنصار هذا البرنامج وهو برنامج يعتمد علي ساقين هما الكفاءة الاقتصادية والجدارة الاجتماعية وإذا كانت العولمة يمكن أن تحقق الكفاءة الاقتصادية فإن الوقف يمكن أن يكون أداة لتحقيق الجدارة الاجتماعية وهناك12 دولة أوروبية اتجهت للطريق الثالث.
مجالات الوقف
ويشير د. محمد شوقي الفنجري أستاذ الاقتصاد الإسلامي إلى بعض المجالات التي امتد إليها نشاط الوقف خلال القرون الماضية ومنها المكتبات العامة ورعاية المخطوطات وإقامة البيمارستانات للعلاج ورصف الطرق وصيانتها وتجهيز العرائس الفقيرات بالحلي ورعاية النساء المختلفات مع أزواجهن وتطبيب الحيوانات والطيور والحدائق المخصصة ثمارها لعابري السبيل ومؤسسة نقطة الحليب لإمداد المرضعات بالحليب والسكر وإقامة أسواق التجارة ووكالاتها بالمدن وعلي طرق التجارة.
وإقامة مؤسسات الصناعة مثل السجاد والعطور والقناديل والورق والمنتجات الخشبية والزجاجية والأغذية والملابس, وإقامة الأفران للخبز والحمامات العامة للنظافة والعبارات لنقل الناس عبر الأنهار والترع وإقراض المحتاجين بدون عوض وإقامة المطاحن العامة لطحن الحبوب بالمجان وإنشاء القناطر والجسور علي الأنهار والترع وإقامة الخانات التي ينزل فيها المسافرون. وهو ما يشير لاتساع مجالات الوقف والتي يمكن أن تخفف العبء عن ميزانية الدولة. كما يمكن أن يمتد نشاط الوقف إلى كل المجالات التي يحتاجها المجتمع مثل البحث العلمي والتدريب والترجمة والإذاعات والصحف المتخصصة والأقمار الصناعية ومحو الأمية واستصلاح الأراضي والبطالة .
المصدر / موقع نافذة الخير