شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

خدماتنا

الاستشارات
ادارة الأوقاف
صناديق العائلة
اثبات الأوقاف
الأربعاء 15 شوال 1445 / 24-4-2024

أثر الوقف في ازدهار الحياة العلمية في أرض الحجاز

59117.jpg

59117.jpg

من المعلوم أن أبا سالم العياشيّ دخل مكّة الـمكرَّمة عشية يوم السَّبت، خامس ذي الحجَّة سنة 1072هـ/ 1661م، في ما أتمَّ أوليا چلبي شعائر فريضة الحجِّ سنة 1082هـ/ 1671م. وفي ما بقي العياشيُّ مُجاوراً بمكّة مدّة فاقت سبعة أشهر، استقرَّ رأيُ أوليا چلبي على مُوافقة قافلةِ الحجِّ المصري عند عودتها؛ لكي يقوم برحلته إلى مصر، فالتقى بشريف مكة مُودِّعاً، واتّجه إلى جُدَّة لمقابلة الوالي العثماني مُسْتأذِناً، ثم ذهب إلى مصر عبر طريق العقبة وطور سيناء؛ وصولاً إلى مدينة السُّويس، ومنها إلى القاهرة.


وفي الأحوال كلها؛ لقد حفلت الرِّحْلات الحجازية بالعديد من أخبار الفقهاء والصُّلَحاء والأعيان والأشْراف؛ فضلاً عمَّا ورد فيها من أخبار تتعلّق بأوضاع وأحوال أرض الحجاز: سياسيًّا واجتماعيًّا، دينيًّا واقتصاديًّا، مما هو قمينٌ بأن يَمُدَّ المؤرِّخ المُهتم بتاريخ الذِّهْنيَّات بمُعطياتٍ بالغة الأهمية؛ خصوصاً ما كان منها واردًا في السِّياق المشْرقِي للرحَّالة المغاربة. صحيح أن من بين أصحاب الرِّحْلات المُدوَّنة مَنْ لا يهتم بحركة الثقافة في أرض المشْرق: مِصْرًا، وشامًا، وحِجَازًا، وإنْ قدَّم أحيانًا جملةً من الـمُعطيات «اللاإرادية» من وجهة نظر البحث التَّاريخيِّ؛ ولكنها- رغم ذلك- تبقى مُؤشِّرًا على طبيعة الأوضاع الفكرية والدِّينية في الأراضي الحجازية على وجه الخصوص، حتَّى وإنْ وردتْ ضمن سياقاتٍ مناقبيةٍ مُشوَّشة، أو ركّزتْ في جانبٍ كبيرٍ منها على ذكر الصُّلحاء والأولياء ممَّن كان لمناقبهم انتشار واسع في الأوساط الدِّينية والعلميَّة.

وبحسب حماه الله ولد السَّالم؛ فإنَّ كثيرًا من الرِّحْلات تكون «مُدبَّجةً بأسلوبٍ يمنعُ مُؤلّفيها من الاسْترسال في وصْف الأحوال المشْرقية وغيرها من السِّياقات التي تَخْترقها رحلته. وقد لا تكون هناك عوائق في تِقنية السَّرد تمنعُ مؤلّف الرِّحْلة من تسجيل ما يلفتُ انتباهَه من (طبائع العُمْران) ونِحَل الاجتماع، ولكنه مع ذلك لا يُقدِّم بهذا الشَّأن ما يستحقُّ الذكْر». ولكن من حُسن الحظِّ أن هذا الأمر لا ينطبق على رحلتي: أبي سالم العياشيِّ وأوليا جلبي؛ إذ اهتم أوَّلهما كثيرًا بذكر الأوضاع الدِّينية – الفقهيَّة والصُّوفية منها بصفة خاصة- في مكّة والمدينة، فيما ركّز ثانيهما على طبائع العُمْران- الفنُون والعمارة بصفةٍ خاصَّةٍ – في الحرمين الشَّريفين. وبالإضافة إلى ما سبق، فإنَّهما اهتما معًا بذكر أمْشَاجٍ من الحالة الفكريَّة والعلميَّة، إضافةً إلى الأحوال السِّياسية والاقتصادية بأرض الحجاز؛ وهو ما سنحاول توضيحه في الفقرات التالية.

 


لقد أوْلَى أُوليا چلبي عنايةً كبيرةً بالحديث عن الأبنية التَّعليمية، التي تعكس الحالة الثقافيَّة والحضاريَّة لبلاد الحجاز؛ خاصَّةً في مكَّة المُكرَّمة والمدينة المُنورة، حيث تتنوَّع أساليبُ التَّعليم في المدارس، وتتدرَّج من السَّماع والمُلازمة إلى المُحاضرة والعرض على الشَّيخ، مرورًا بطرح الأسئلة وتدوين الأجوبة، واتباع طريق الإملاء، انتهاءً بطريقة المُذاكرة والمُناظرة. ومن بين مدارس المدينة المُنورة، التي تبلغ «بالتّمام والكمال مئةً وثمان عشرةَ مدرسة» آنذاك، تحدَّث چلبي في رحلته عن كلٍّ من: مدرسة سيف الدِّين سُلطان «وقد كُتِب على بابها الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾.[الإسراء: 19] كما كُتب أسفل الآية: «أمَرَ بعمارة هذه المدرسة المُباركة الأميرُ الكبير المُحتاج إلى عفو ربِّه الرَّحمن، مالِك الأمْر: سيفُ الدِّين خُوبان، والخاتُون المُعظَّمة، سنةَ أربع وعشرين وسبع مئة».

وكذلك تحدث أيضاً عن مدرسة السُّلطان قايتباي، وتقعُ إلى جوار المدرسة السَّابقة تمامًا. وقد أنشأها السلطان قايتباي مع مدارسه في مكّة، وهي على شكل القاعة بأربعة أواوين كلّها بالحجارة المنحوتة المُلوَّنة، وفيها الخلواتُ للطلبة. كما أنشأ السُّلطان أيضاً مكتبةً بمكّة، بالإضافة إلى مكتبة السُّلطان سُليمان القانوني في مدارسه الأربع، ومكتبة الشَّيخ إبراهيم الزَّمْزَمي التي كان بها أنفس الكتب ولكن تبعْثرَتْ مُقتنياتُها سنة 1196هـ. أمَّا أشهر مكتبات المدينة المنورة؛ فهي مكتبة السُّلطان قايتباي في مدارسه، وقد ضُمَّت إلى خزانة الحرم النبويِّ الشَّريف، ومكتبة السُّلطان سُليمان القانوني، ومكتبة المدرسة الحميدية، ومكتبة عمر قرَّة باشا. ومن المدارس المكية التي أتى على ذكرها أيضاً، مدرسة صُوقوللي محمَّد باشا (ت 987هـ/ 1579م)، وتُوجد خارج باب جبريل. وكذلك وقفُ السُّلطان محمَّد الثالث (974- 1012هـ/ 1566- 1603م).

أما وفي المدينة المنورة؛ فثمة «عشرون كُتَّاباً (مدرسةً للصِّبيَة) وسبع (دُورٍ للقُرَّاء)، وسبعُ دورٍ للحديث (دار الحديث)، وسبعون نُزلًا لعابري السَّبيل والغُرباء، ولبعضها أوقافٌ كثيرةٌ تُمكِّنها من أن تُوزِّع على الحجيج عسل». وقد كان للوقف أثرهُ العميق في ازدهار الحياة العلمية في أرض الحجاز، حيث تنوَّعت عطاءاتُه وتعدَّدت صورُه وأنماطُه فيما يخصُّ العلم والتَّعليم بصفة خاصَّة؛ سواء ما يتعلّق بالإنفاق على الدَّارسين، أو وقف الأبنية التَّعليمية حيث شاعت هذه الصُّور إبَّان العهد العثماني، كما شاعت التَّكايا والأربطة والزَّوايا والكتاتيب والخلاوي.

وقد تمَّ حصْرُ الأربطة في مكّة سنة 1301هـ/ 1972م بما يصل عددُه إلى مئةٍ وخمسين رباطًا، وكانت تأتي من مصر إعاناتٌ سنويةٌ لهذه الأربطة، وفي مقدِّمتها: رباط السُّليمانية؛ نسبة إلى السُّلطان سُليمان القانوني. ورباط خصكي سُلطانة الذي أنشأته زوجُ السُّلطان سُليمان القانوني، وأوقفتْ له أبنية في مصر ليكون صدقةً جارية. ورباط الدَّاودية؛ نسبةً إلى والي مصر داود باشا (945- 956هـ/ 1538- 1549م)، وكانت مدرسةُ هذا الوالي عند باب العُمْرة. ورباط البصْري أو رباط السَّادة وقد أنشأه الشَّيخ عبد الله البصري سنة 1160هـ/ 1747م. وأخيراً- وليس آخراً- رباط ألماظ آغا الذي أوقف صاحبُه رباطين في مكّة سنة 1263هـ/ 1846م.

وفي السياق ذاته يتحدَّث أوليا چلبي عن ضاحية المدينة، التي تُوجد بها بعضُ المدارس، فيقول: «كانت تبلغ ستًّا وأربعين مدرسة قد تحوَّلتْ إلى منازل، وبها ستُّ مدارس (دارٌ للقُرَّاء) وإحدى عشر دارًا للحديث، وعشرون مدرسة للصِّبية والأطفال. وجميع هذه المدارس مُرتبطة بالصُرَّة السَّنويَّة، ولكلٍّ حصَّةٌ مُعينة. وخيراتُ المدينة المُنورة لا تُصادَف في أيِّ مدينةٍ أخرى». كما تحدث أخيراً عن مدرسة الخاصكية، التي كانت تُوجد بالقرب من الحمَّام العام بضاحية المدينة، حيث ينام الحُجَّاج. وفي هذه المدرسة تُوزَّع الشُّوربة، ولَحْم الضَّأن، والأُرز، والعاشُوراء على الفُقراء والمساكين ليلًا ونهارًا، كما تُوزَّع على الذين يسكنون داخل أسوار القلعة جميعًا؛ غنيٌّ أو فقير، خادمٌ أو مخْدُوم.

ومن المعلوم أن الدَّولة العثمانية قد اعتادت أن تبعث في شهر رجب من كلِّ سنة، قُبَيل نهاية القرن التاسع عشر الميلادي/ الثالث عشر الهجري، من استانبول إلى الحرمين الشَّريفين مبلغًا من المال وكميَّة من الهدايا تحت مُسمَّى «الصُّرَّة»، وأطلقتْ على الموظف المُكلَّف بتوزيعها لقب «أمين الصُّرَّة». وكانت «الصُّرَّة» تُرْسَل من مصر إلى المدينتيْن المُقدَّستيْن حتَّى سنة 1126هـ/ 1714م، وكان يتمُّ إلباس أمين الصُّرَّة «الخلْعة» في مقام وبحضور الصَّدر الأعظم (= رئيس الوزراء)، ثمَّ يُبعَثُ به من الباب العالي برفقة المُلخّص إلى السَّراي. وقد كان للدعم المالي الذي قدَّمه العثمانيون في القرنين العاشر والحادي عشر للهجرة أثر مُهمّ في انتعاش الحياة العلمية في الـحرمين الشَّريفين؛ مثل (الغلال- الصَّدقات- الصُرَّة العثمانية – والأوقاف)، حيث شهد العصر العثمانيُّ الإكثار من الأوقاف التي دعمت الحياة العلمية.

المصدر: جريدة الحياة – قسم ثقافة ومجتمع