شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

خدماتنا

الاستشارات
ادارة الأوقاف
صناديق العائلة
اثبات الأوقاف
الخميس 18 رمضان 1445 / 28-3-2024

الوقف العقاري في الشريعة الإسلامية

الاثنين 9 جمادى الأولى 1435هـ 10 مارس 2014م

الحمد لله الذي جعل محبته موقوفة على متابعة الرسول، وصلى الله وسلم على عبده الذي تصدق قبل وفاته بكل عقار وكل منقول، صلاةً محبسة مؤبدةً لا تحول ولا تزول، وعلى آله وأصحابه سادات المنقول والمقعول، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الفرار والذهول، أما بعد:

فإن للوقف من بين سائر الصدقات والتبرعات منزلةً عظيمةً، وفضلاً وثواباً كبيراً، وذلك لدوامه واستمرار انتفاع الموقوف عليه به، جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الخصال الثلاث التي لا تنقطع بموت الإنسان، بل تبقى جارية بعد وفاته، فقال: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”(1).

فالعمل الصالح ينقطع بموت صاحبه إلا ما كان من هذه الثلاث الخصال، التي تسبب فيها الإنسان، وبقيت مستمرة بعد وفاته.

وبدأها بالصدقة الجارية؛ لأنها عامة من حيث الانتفاع بها، لا يختص بها قومُ عن قوم، ولا تتحجرها فئة عن فئة، بخلاف الانتفاع بالعلم الذي خلّفه من تعليم أو تأليف، أو إعانة عليهما، فإن المنتفعين به أقلُّ من المنتفعين بالصدقة الجارية، والعلماء وطلبة العلم في عامة الناس قليل، ولا سيما في هذه العصور التي امتلأت بالملهيات، وخلد فيها أكثرهم إلى الدنيا واطمأنوا بها، فنسوا أصول دينهم وفروعه إلا من رحم.

ولما كان كذلك وجب على أهل العلم وطلبته، تبليغ شريعة الله واجبها ومسنونها، وتذكير الناس بما عند الله، وترغيبهم في جزيل فضله، وواسع عطائه، وتبيين سبل الخير وإشهارها وتوضيح فضلها ودرجاتها، ليسلك من أراد الخير سبيلها.

الوقف لغةً: الحبس(2).

وشرعاً: “تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة أو المنفعة”(3)، أو “تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة”(4).

وهذا التعريف مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: “إن شئتَ حَبَسْتَ أصْلَها، وتصدَّقْتَ بها”(5).

وكما لا يخفى على ذي دراية بالفقه أن الوقف باعتبار ما يمكن وقفه نوعان:

1 – وقف العقار.     2 – وقف المنقول.

والذي سنتكلم عنه في هذه الرسالة “الوقوف العقاري”؛ وذلك لأمرين، هما:

1 – أنه الأصل في الوقف(6) ويكاد ينعقد الإجماع على جوازه ومشروعيته، بخلاف وقف المنقول فالخلاف فيه مشهور، وإن كان الصواب أنه مشروع كالعقار تماماً.

2 – أن الانتفاع بالعقار أوسع وأشمل، والمنقول إن كان مستمراً لا يتلف بالانتفاع به، فهو محدود النفع في الغالب، معرض للتلف والهلاك. فمن وقف فرساً على المجاهدين أو دبابة مثلاً أو طائرة ليس كمن وقف عقاراً ثابتاً، وليس معنى ذلك التهوين من شأن وقف المنقول، كلا! بل المراد بيان الحال والواقع، وإلا فربّ وقفٍ لمنقول كان ثوابه أضعاف ثواب وقف العقار، لأن العبرة في الوقفين بالأثر المترتب عليهما، ومدى نفع الموقوف عليهم.

والثواب كمّاً وكيفاً ليس راجعاً فحسب إلى نوع الوقف، بل هناك أمور أخرى لها الأثر العظيم فيه، منها في الواقف: سعته من فقره، فإن جهد المقلّ، وصدقة ذي المال القليل دليل ثقة بالله، وركون إلى ما عنده، وزهده في متاع الدنيا الزائل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “سبق درهم مائة ألف درهم”(7)، وذلك ظاهر، فإن من يتصدق بدرهم وهو نصف ما لديه مثلاً، ليس كمن ينفق مليوناً وهو عشر العشر من ماله مثلاً. فإن الثاني لم يقم بقلبه من خشية الفقر والعوز والحاجة إلى الناس، ما قام بقلب الأول، فلمّا تجاوز صاحب الدرهم تلك المرحلة الخطرة، ولم يبال بتلك الخشية، علم صدقه وثقته بما في يدي الله، وهذا هو الغنى عينه كما روي في أثرٍ مرفوع(8).

وكذلك يعود مقدار الثواب إلى حال الناس في تلكم الحقبة، فإن الإنفاق في أوقات العسرة، وأزمنة النكبات، وقت اشتداد الحاجة بل الضرورة، ليس كالإنفاق في أوقات اليسرة، وأزمنة السعات، كما جاء في قولهه تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: من الآية10].

وبالجملة فثواب الوقف ليس محصوراً في مقدار العين الموقوفة، بل الأمر فوق ذلك، والواجب على من شرح الله صدره للوقف الانتباه لما يأتي:

1 – إحضار النية الصادقة الصالحة، بأن يكون وقفه إيماناً واحتساباً، لا رياءً ولا سمعة، فإنما الأعمال بالنيات، وفي الصحيح “أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة… وذكر منهم منفقاً جواداً أنفق ليقال جواد فيسحب في النار على وجهه”(9)، فما أغنى عن المسكين كلمة “يقال وقد قيل” فليحذر المؤمن من أن يكون حظه من نفقته ووقفه “فقد قيل”.

2 – استشارة أولي العلم والخبرة، العلم بأحكام الأوقاف، والخبرة باستراتيجياته وشؤونه الواقعية، من القضاة والدعاة والعاملين في الجهات الخيرية ومراكز الاستشارات التي تُعنى بأحكام الوقف، فإنهم لعلمهم وخبرتهم لا بد وأن يضفوا على تصور مريد الوقف معلومات لا يدركها وربنا جل وعلا يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43]، وفي استشارة عمر وأبي طلحة رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوضح ذلك ويؤكده(10).

3 – أن يتخير لوقفه من أحسن ماله، وأنفسه عنده، فإن إخراج العبدُ من أحسن ماله دليل صدقه، وبرهان ثقته بمعاملة ربه الجواد، وقد جعل سبحانه وتعالى البرّ درجة لا تنال إلا بالإنفاق من المحبوب، الذي تتعلق النفوس به، وتتشوف إليه، فقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: من الآية92]، فقطع الطريق على مدعي البرّ حتى يبرهن على صدقه بإنفاقه من المحبوب فإن فعل ذلك، فهو صادق حقاً، نال البرَّ، وصار من أهله وذويه.

فيا أيها الواقف ويا أيها المنفق!! دونك باب البر فلجْه، وأمامك حوض الأجر فردْه.

4 – أن ينظر إلى حاجة الناس إلى وقفه، ويتلمس ما هم له أحوج، وله أشوف، فيبادر به فإذا رأى انتفاع الناس وحاجتهم إلى مسجد أكثر من غيره، سارع به، وإن رأى كثرة المساجد وحاجة الناس إلى ماء، سعى في حفر بئرٍ وبادر إلى ذلك. وهكذا في غيرهما.

وليهتم بالوقف على أهل العلم وطلبته الذين تفرغوا لتفقيه الأمة ورفع الجهل عنها، فإن حاجة الأمم إليهم توازي حاجتها إلى الطعام والشراب بل حاجتها إلى الهواء.

فليكن فقيه النفس، ثاقب النظرة، واسع المدارك، فربّما وقف الرجل وقفاً حسناً وكان غيره أولى، إما من جهة الزمان أو المكان أو الأعيان، ولما أعتقت ميمونة أم المؤمنين وليدتها وأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: “أمّا أنكِ لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك”(11).

فجعل الصدقة بها على الأقارب أعظم أجراً من العتق المطلق، مع ما جاء في العتق من الأجور العظيمة، والثواب الجزيل؛ وذلك أن المفضول لا يكون مفضولاً دائماً، ولا الفاضل كذلك، بل قد يعرض للمفضول من العوارض الزمانية أو المكانية أو غيرها ما يجعله فاضلاً.

وهذه التنبيهات الأربعة في الموقوف عموماً، وفيما نحن بصدده من الوقف العقاري ينبغي للواقف أن:

يتخير من عقاراته الطيب والحسن، النفيس في هيئته وبنائه، الكثير في ريعه ودخله، وينظر إلى الموقوف عليهم فيختار من انتفاعهم بوقفه أعظم، ونفعهم للأمة أظهر، فإنه كلما اهتم بذلك وأحسنه، كان أدعى إلى وقوع الوقف موقعاً حسناً عند الله وعند خلقه.

وليعلم بأن هذا مالٌ يقدمه بين يديه، وثواب يدخره ليوم فاقته وحاجته إليه، فإن حسّنه وأغلاه، وجده كأحسن ما هو راءٍ وأنفعه، وإن لم فالجزاء من جنس العمل.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة:267].

أي ولا تقصدوا الرديء السيئ فتخرجوه صدقة، فإنكم لا ترضون ذلك لأنفسكم إلا على مضضٍ وإغماض وكُرهٍ، فكيف ترضونه لربكم الغني الحميد؟

أولاً: تعريف العقار لغةً واصطلاحاً:

لغةً: العين والقاف والراء دالٌّ على ثبات ودوام، وهو كل شيء ثابت له أصل(12).

واصطلاحاً: يراد به ما يملكه الإنسان من الأراضي، والمنشآت عليها، من البيوت، والقصور، والعمائر، والشقق، والدكاكين، ومحطات الوقود، والاستراحات، والأراضي، ونحوها بأي سبب كان من أسباب الملك، من إحياءٍ، أو شراءٍ، أو إرثٍ، أو هبةٍ(13).

ثانياً: حكم وقف العقار:

اتفق الفقهاء على جواز وقف العقار بلا خلاف، بل إن العقار هو المثال الذي يذكره الفقهاء صورةً تطبيقيةً للوقف المتفق عليه بين الفقهاء(14)، ثم يتحدثون عن الفروع المختلف فيها، وعباراتهم في ذلك تدور حول معنى واحد مفاده: “يجوز وقف العقار كالدور والأرضين والبناء”(15).

والأدلة على مشروعيته كثيرة، منها:

1 – فعل النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج البخاري في صحيحه عن عمرو بن الحارث قال: “ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمَةً ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء وسلاحاً وأرضاً جعلها صدقة”(16).

2 – عمل الصحابة رضي الله عنهم: فقد وقف كثير من الصحابة أرضهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

أ – وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضه في خيبر: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً من أرض خيبر فقال: يا رسول الله! أصبت أرضاً بخيبر، لم أُصِب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهَب ولا تورَث، في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعِم غير متمول”(17).

ب – وقف أبي طلحة رضي الله عنه أرضه بالمدينة والتي كانت تسمى بَيْرُحَاء، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبُّ أمواله إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيِّب، قال أنس: فلما أُنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: من الآية92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: من الآية92] وإن أحبَّ أموالي إليَّ بيرُحاء، وإنها صدقةٌ لله، أرجو بِرَّها وذُخْرها عند الله، فعضها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بخ، ذلك مالٌ رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين” فقال أبو طلحة: أفْعَلُ يا رسول الله، فقَسَمَها أبو طلحة في أقاربه وبني عمِّه(18).

ت – وقف أنس بن مالك، والزبير رضي الله عنهما أرضهم: أخرج البخاري في صحيحه تعليقاً ما نصه: “وأوقف أنس داراً، فكان إذا قدِمها نزلها، وتصدق الزبير بدُوره، وقال: للمردودة من بناته “المطلقة” أن تسكن غير مضِرَّة ولا مُضَرٍّ بها، فإن استغنت بزوج فليس لها حق.

ث – وجعل ابن عمر رضي الله عنهما نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجة من آل عبد الله(19).

ج – وقف الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه داره: “أخرج الحاكم عن عثمان بن الأرقم المخزومي أنه كان يقول: أنا ابن سبع الإسلام، أسلم أبي سابع سبعة، وكانت داره على الصفا، وهي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيها في الإسلام، وفيها دعا الناس إلى الإسلام، فأسلم فيها خلق كثير منهم عمر بن الخطاب، فسُميت دار الإسلام، وتصدَّق بها الأرقم على ولده، وذكر أن نسخة صدقته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى به الأرقم… إلى أن قال… لا تباع ولا تورث”(20).

ح – و”تصدق أبو بكر الصديق رضي الله عنه بداره بمكة على وليدِه فهي إلى اليوم، وتصدق عمر برَبْعه عند المروة على ولده فهي إلى اليوم، وتصدق علي بأرضه وداره بمصر وبأمواله بالمدينة على ولده فذلك إلى اليوم، وتصدق سعد بن أبي وقاص برَبعِه عند المروة وبداره بالمدينة وبداره بمصر على ولده فذلك إلى اليوم، وعثمان تصدق بدومة – اسم مكان – فهي إلى اليوم، وعمرو بن العاص بالوهط – اسم مكان – بالطائف وداره بمكة والمدينة على ولده فذلك إلى اليوم”(21).

3 – الإجماع: قال القرطبي رحمه الله: “إن المسألة إجماعٌ من الصحابة وذلك أن أبا بكر وعُمَر وعثمان وعليّاً وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابراً كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة”(22).

وقال ابن قدامة رحمه الله: قال جابر: “لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وَقَف” وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدَر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك، فلم يُنكره أحد، فكان إجماعاً. ا.هـ(23).

4 – المعقول: فالذي يجوز وقفه هو ما يجوز بيعه ويجوز الانتفاع به مع بقاء عينه، ويشكِّل أصلاً يبقى بقاء متصلاً، وهذا يتحقق في العقار(24).

ثالثاً: شروط وقف العقار:

للوقف أركان أربعة، كما ذكره جمهور العلماء، ولكل ركن شروط:

الركن الأول: الصيغة:

أي اللفظ الدال على إرادة الوقف، وينقسم إلى قسمين: “صريح وكناية”.

القسم الأول: صريحة: كأن يقول: “وقفت، وحبست، وسبلت”(25). هذه الألفاظ صريحة، لأنها لا تحتمل غير الوقف، فمتى أتي بصيغة منها، صار وقفاً، من غير انضمام أمر زائد إليها.

القسم الثاني: الكناية: كأن يقول: “تصدقت، وحرمت، أبدت”(26) سميت كناية لأنها تحتمل معنى الوقف وغيره، فمن تلفظ بواحد من هذه الألفاظ اشترط نية الوقف معه.

أو اقتران أحد الألفاظ الصريحة أو الباقي من ألفاظ الكناية معه، واقتران الألفاظ الصريحة، كأن يقول: “تصدقت بكذا صدقة موقوفة أو محبوسة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة”، واقتران لفظ الكناية بحكم الوقف، كأن يقول: “تصدقت بكذا صدقة لا تباع ولا تورث”.

وقيل: إنه يصح بالقول والفعل الدال عليه عرفاً كجعل أرضه مسجداً، أو الإذن للناس بالصلاة فيه(27)، وهو الصواب إن شاء الله. وانعقاد الوقف بالفعل هو قول جمهور أهل العلم خلافاً للشافعية(28).

قال فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: “أما الفعل فيشترط فيه أن يكون هناك قرينة تدل على أنه وقف، فإذا وجدت قرينة تدل على أنه وقف فهو وقف ولو نوى خلافه”(29).

الركن الثاني: الواقف(30):

وهو الحابس للعين، ويشترط أن يكون الواقف جائز التصرف ويقصد به صلاحية الشخص لممارسة الأعمال التي يتوقف اعتبارها الشرعي على العقل، ويمكن إجمال شروط الواقف فيما يلي:

1 – العقل: فلا يصح وقف المجنون؛ لأنه فاقد العقل، ولا وقف المعتوه؛ لأنه ناقص العقل، ولا وقف مختلف العقل بسبب مرض أو كبر؛ لأنه غير سليم العقل؛ لأن كل تصرف يتطلب توافر العقل والتمييز(31).

2 – البلوغ: فلا يصح وقف الصبي، سواء أكان مميزاً أم غير مميز؛ لأن البلوغ مظنة كمال العقل، ولخطورة التبرع(32).

3 – الرشد: فلا يكون محجوراً عليه لسفه أو غفلة، وأجاز بعض الفقهاء وقفه في حالة واحدة، وهي أن يقف على نفسه أو على جهة بر وخير، لأن في ذلك مصلحة له بالمحافظة عليها(33).

4 – الاختيار: فلا يصح وقف المكره(34).

5 – الحرية: فلا يصح وقف العبد؛ لأنه لا ملك له.

6 – الملك التام: فلا يصح وقف مال الغير، ولا يصح وقف الغاصب المغصوب؛ إذ لا بد في الواقف من أن يكون مالكاً الموقوف وقت الوقف ملكاً باتاً، أو بسبب فاسد كالمشترى شراء فاسداً والموهوب بهبة فاسدة بعد القبض في رأي الحنفية، وينقض وقف استحق بملك أو شفعة وإن جعله مسجداً، ووقف مريض أحاط دينه بماله(35).

وجوب العمل بشروط الواقف:

إذا شرط الواقف في وقفه ما لا يخالف الشرع، أو ما لا يخالف مصلحة الوقف أو الموقوف عليهم، وجب اتباع شرطه، ويعتبر الفقهاء أن شرط الواقف كنص الشارع، قال ابن تيمية رحمه الله: “من قال من الفقهاء: إن شرط الواقف نصوص كألفاظ الشرع، فمارده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف لا في وجوب العمل بها، أي أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه فكما يعرف العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظ الشارع، فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف”(36).

ومثال الشروط المخالفة لمصلحة الموقف ما إذا شرط ألا يؤجر الوقف إلا بأجرة معينة والحال أن هذه الأجرة لا تكفي لعمارة الوقف، أو شرط على الموقوف عليهم أن لا يرتزقوا من جهة أخرى مع عدم كفايتهم بما وقف، ففي هذه الأحوال وأمثالها لا يعمل بشرط الواقف.

ونص الفقهاء على أن الوقف إذا اقترن بشرط غير صحيح بطل الشرط وصح الوقف(37).

الركن الثالث: الموقوف عليه:

وهي الجهة المنتفعة من الوقف، كالمساكين والمساجد والقناطر والأقارب(38) ذريةً للواقف، أو غيرهم.

وأن تكون غير منقطعة بمعنى أن لا تنتهي كالوقف على المساكين، ومِن الفقهاء مَن أجاز الوقف على جهة منقطعة.

وهي الجهة المنتفعة من العين المحبوسة، وهو أما أن يكون معيناً أو غير معين.

فالمعين: إما واحد أو اثنان أو جمع، وغير المعين أو الجهة كقوله: “أحد هذين الرجلين”(39). مثل الفقراء والمجاهدين والمساجد والكعبة والرباط والمدارس والثغور وتكفين الموتى والعلم والقرآن.

شروط الموقوف عليه:

الأول: أن يكون الموقوف عليه جهة بر وقربة وليست جهة معصية(40).

الثاني: أن يكون أهلاً للتملك آنفاً(41).

الثالث: أن لا يعود الوقف على الواقف، سواء وقف على نفسه أو اشترط الغلة لنفسه(42).

الرابع: أن تكون الجهة الموقوف عليها غير منقطعة(43).

الخامس: أن تكون الجهة الموقوف عليها معلومة(44).

الركن الرابع: الموقوف:

ويشترط فيه أن يكون مالاً مملوكاً للواقف حين الوقف فلا يصح وقف المرهون، ولا المحجوز لقضاء حقن ويشترط دوام الانتفاع به وليس من المستهلكات كالطعام(45)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاختيارات: “ولو قال إنسان: “تصدقت بهذا الدهن على المسجد ليوقد به” جاز، وهو من باب الوقف، وتسميته وقفاً بمعنى أنه وقف على تلك الجهة لا ينتفع به غيرها، لا تأباه اللغة ولا الشرع”(46).

وعلق الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في حاشيته على الاختيارات فقال: “وكلام الشيخ – يعني ابن تيمية – في هذا صريح في جواز وقف ما لا ينتفع به إلا مع ذهاب عينه والمذهب – يعني الحنبلي – عدم صحته إلا في الماء لكن ما ذهب إليه الشيخ أظهر ولا فرق بين الماء وغيره – والله أعلم -، فذلك دليل عرى جواز وقف المنافع التي تبقى أعيانها وتستهلك منافعها”، ويصح وقف المال المنقول والمشاع(47) والعقار. وهي العين المحبوسة.

واتفق الفقهاء على اشتراط كون الموقوف:

أ – مالاً متقوماً: كالعقار والحيوان والسلاح والكتب والمصاحف، وغيرها من المنقولات، ويصح وقف الحلي للبس أو الإعارة، لأنها عين يمكن الانتفاع بها دائماً، فصح وقفها كالعقار، ولما روى الخلال بإسناده عن نافع قال: “ابتاعت حفصة لي حلياً بعشرين ألفاً فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته”.

ولا يصح وقف ما لا يجوز بيعه، كأم الولد والكلب، ذَكَره في المقنع.

ب – معلوماً محدداً: إما بتعيين قدره كوقف دونم أرض (ألف متر مربع)، أو بتعيين نسبته إلى معين كنصف أرضه في الجهة الفلانية، فلا يصح وقف المجهول غير المتعين(48).

ج – ملكاً للواقف ملكاً تاماً: أي لا خيار فيه، لأن الوقف إسقاط ملك، فيجب أن يكون الموقوف مملوكاً.

د – ألا يتعلق بالموقوف حق للغير: فلا يكون مرهوناً، أو ضماناً لدين أو غيره مما تتعلق به حقوق الآخرين.

هـ – أن يمكن الانتفاع به: أي يمكن الاستفادة منه في تحقيق المقصد من الوقف.

وشروط وقف العقار هي:

1 – أن يكون مملوكاً للواقف: بأن تتمحض وتخلص ملكيته للعقار، بأن يصل إليه بأي نوع من أنواع التمليك بشراءٍ أو هبةٍ أو إرثٍ أو أرش جناية، أو غير ذلك ويتفرع عليه المسائل التالية:

أ – وقف العقار المستأجر: هناك فرق بين “تأجير العقار الموقوف” و”وقف العقار المستأجر” فالأول يجوز لأن منافعه مملوكة للموقوف عليه فجاز له إجارتها كالمستأجر(49).

وأما وقف العقار المستأجر، ففيه خلاف:

قال الحنفية والحنابلة: لا يملك المستأجر وقف منفعة العين المستأجرة لأنه يشترط لديهم التأبيد والإجارة المؤقتة غير مؤبدة، وكذلك قال الشافعية: مالك المنفعة دون الرقبة كالمستأجر لا يصح وقفه، لكن لو وقف المستأجر بناءً أو غراساً في أرضٍ مستأجرة له جاز، وقال المالكية: للمستأجر وقف منفعة المأجور مدة الإجارة المقررة له، إذ لا يشتط لديهم تأبيد الوقف.

وأما المؤجِّر فالجمهور على جواز وقفه العقار المؤجر لأنه وقف ما يملكه ويبقى للمستأجر الحق في الانتفاع بالعين المستأجرة ولا يصح وقفه عند المالكية(50).

ب – وقف المرهون: إذا وقف الراهنُ الرهنَ بإذن المرتهن فلا خلاف في جوازه، لأن ذلك حق للمرتهن أسقط بالإذن بوقفه(51).

وأما إن وقفه الراهن دون إذن المرتهن، ففيه قولان:

الأول: المنع لأنه تصرف يبطل به حق المرتهن من الوثيقة، ويلحق الضرر به، وهو قول الجمهور.

الثاني: الجواز لأنه يلزم لحق الله أشبه عتق المرهون، وهو قول الحنفية.

والصحيح الأول، والجواب عن القول بالجواز وأنه يشبه العتق في السريان: أن هذا خطأ فهذا التصرف لا يسري إلى ملك الغير، ولأن القول بصحة عتق المرهون مع الإثم أيضاً ضعيف، والراجح حرمته فإن في عتقه ضرراً محققاً على المرتهن، وقد جاءت الشريعة برفعه وإزالته، وقوة السريان واردة ما لم يبطل بها حق الغير فإن بطل حرمت ومنعت(52).

مسألة: هل يجوز وقف العمائر التي بنيت بقرض من صندوق التنمية العقاري وهي لا تزال مرهونة لدى الصندوق؟

الجواب: هذه المسألة فرع عما سبق، وهي مبنية على مسألة أخرى، وهي هل يلزم الرهن بدون قبض أم لا؟ فمن قال: لا يلزم إلا بالقبض، قال: يصح الوقف وغيره من التصرفات التي تنقل الملك، لكون الرهن لم يقبض، ومن قال: إن الرهن يلزم ولو لم يقبض المرهون، لم يصح الوقف ولا غيره من التصرفات الناقلة للملك، وبذلك يعلم أن الأحوط عدم وقفه حتى يسدد ما عليه للبنك خروجاً من خلاف العلماء.

مسألة لو قال قائل: إن ملكت هذا البيت فهو وقف، فملكه فهل يكون وقفاً؟

الجواب: قد يقال: بالجواز؛ لأنه يجوز شراء الأرض للتقرب بها إلى الله، فإذا علق التقرب بها إلى الله على ملكها كان ذلك جائزاً؛ كما لو علق عتق العبد على شرائه؛ فقال: إن اشتريت هذا العبد فهو حر، فهذا يصح عند الإمام أحمد رحمه الله؛ قال: لأن العتق قربة؛ وبناء عليه نقول: ولأن الوقف قربة؛ فبناء على هذا: يصح.

لكن أكثر أهل العلم يقولون: لا يصح، حتى في العتق يقولون: إنه لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا عتق لابن آدم فيما لا يملك”(53)، وهو حين التعليق غير مالك له، وإذا لم يصح في العتق مع قوته ونفوذه وسريانه لم يصح – أيضاً – في الوقف؛ إذن: فالعلماء السابقون اختلفوا على قولين:

فمن صحح تعليق العِتْق بالملك فإنه يصحح تعليق الوقف بالملك، ومن لا فلا، والصحيح: أنه يصح إذا علقه؛ لكن بشرط: أن يكون هذا متقارباً؛ بمعنى: أنه يقول هذا ويشتريه فوراً، أما لو طال الوقت فإن هذا قد يكون فيه غرر على الإنسان، ربما يكون إنسان عنده رغبة في أن يشتري هذا البيت ويوقفه، ثم يشتري بيتاً آخر فيوقفه، فتتغير الحال، ففي هذه الحال: له أن يبطل هذا التعليق، وإذا أبطل هذا التعليق فاشترى البيت لم يكن وقفاً(54).

وعليه فلا يجوز وقف أرض الإقطاعات وهي أرض مملوكة للدولة، أعطتها لبعض المواطنين ليستغلها ويؤدي الضريبة المفروضة عليها، مع بقاء ملكيتها للدولة، فإذا وقف المقطع له هذه الأرض لا يصح وقفه؛ لأنه ليس مالكاً لها، وكذلك لا يجوز للحكام والولاة والأمراء وقف شيء من هذه الإقطاعات إلا إذا كانت الأرض مواتاً، أو ملكها الإمام، فأقطعها رجلاً. ويجوز لمن أحيا الأرض الموات من الأفراد وقفها؛ لأنه ملكها بالإحياء، ووقف ما يملك.

قال ابن عابدين: وأغلب أوقاف الأمراء بمصر، إنما هو إقطاعات يجعلونها مشتراه صورة من وكيل بيت المقدس.

ولا يجوز وقف أراضي الحوز وهي أرض مملكة لبعض الأفراد، ولكنهم عجزوا عن استغلالها؛ فوضعت الحكومة يدها عليها لتستغلها وتستوفي منها ضرائبها. فلا يصح وقفها؛ لأنها ليست مالكة لها، وإنما ما تزال ملكاً لأصحابها(55).

2 – أن يكون العقار معلوماً: العلم بما لا تتم معرفة الموقوف إلا به، من حدوده الأربعة، ومكانه، كالشقة الفلانية، أو الطابق رقم كذا من العمارة الفلانية، أو الغرفة… كأن يقول: وقفت فلتي الواقعة في حي كذا يحدها من الشرق كذا…، وهذا إن كان لا يعرف إلا بذلك، حسماً للنزاع والخلاف، وإن كان مشتهراً الشهرة الكافية فتكفي فيه وإن لم يذكر حدوده ومكانه، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وفي حديث عمر وأبي طلحة رضي الله عنهما أنه لا يشترط في الموقوف أن تبين حدوده إذا كان معلوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعمر وأبي طلحة رضي الله عنهما: هل حدّدتما؟ وكم متراً هو؟ فإذا كان الشيء معروفاً فلا حاجة لبيان مقداره بالأمتار، ولهذا كانت مكاتب الأولين يقولون: باع فلان على فلان بيته في الحي الفلاني، شهرته تغني عن تحديده، ويُصدِّق القضاة على هذا، ويعتبرونه بيعاً صحيحاً؛ لأنه مشهور، لكن لما تغيَّر الناس، وكثر الباطل صار القضاة اليوم يحافظون محافظة تامة على ذكر الحدود والمقدار بالأمتار، ولا شك أن هذا أضبط، وأقطع للنزاع(56).

3 – أن يكون مفرزاً، فإن كان مشاعاً ففي جواز وقفه خلاف:

اختلف الفقهاء في صحة وقف الشريك نصيبه المشاع على أقوال ثلاثة:

القول الأول: صحة وقف أحد الشركاء نصيبه في المشاع، وهو مذهب أبي يوسف من الحنفية ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة.

القول الثاني: المنع من وقف المشاع إن كان مما لا يقبل القسمة، وهو قول المالكية.

القول الثالث: المنع من وقف المشاع إن كان مما يقبل القسمة، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية.

أدلة الأقوال:

تعليل القول الثالث:

عللوا لهذا القول بأن القسمة بيع ولا يجوز بيع الوقف.

وأجيب: بعدم التسليم بأن القسمة بيع، بل هي إفراز لا بيع. وعلى التسليم بأنها بيع، فبيع المعروض للقسم كالمأذون في بيعه من محبسه، فضلاً عن أن الممنوع هو بيع الوقف لغير بدل يكون أنفع للوقف.

أدلة القول الثاني:

أولاً: عللوا بوجود الضرر على الشريك عند وقف ما لا يقبل القسمة، حيث لا يقدر على البيع.

وأجيب: بعدم التسليم، حيث وقع الإجماع على أن للشريك بيع نصيبه من المشاع.

ثانياً: كما عللوا بأنه قد وقوع فساد في المشاع لن يجد من يصلحه.

وأجيب كذلك بعدم التسليم حيث إن عمارة الوقف وإصلاحه هي أول واجبات الناظر ولذا فهو موكل بذلك.

أدلة القول الأول:

الدليل الأول: يستدل بما جاء عن كعب بن مالك رضي الله عنه: قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال: “أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك” قلت: أمسك سهمي الذي بخيبر.

قال ابن حجر: “قوله: “أمسك عليك بعض مالك” ظاهر في أمره بإخراج بعض ماله وإمساك بعض ماله من غير تفصيل بين أن يكون مقسوماً أو مشاعاً”.

التعليل الثاني: يعلل كذلك بأن وقف المشاع يحصل به تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة بلا ضرر في ذلك.

التعليل الثالث: أنه كما يصح بيع الشريك نصيبه المشاع يجوز وقفه.

قال الإمام أحمد رحمه الله: أن عندي جائز أن يوقف مشاعاً غير مقسوم، سهم من كذا وكذا سهم مثل البيع.

وقال أيضاً عن المشاع: “كيف يجيزون بيعه ولا يجيزون إذا وقفه، قول متناقض، إذا كان يبيعه فإنما باع ما يملكه وكذا يوقف ما يملك”.

والراجح صحة وقف المشاع مطلقاً، لما سبق من الاستدلال، ولما يحقق ذلك من توسيع للصور الوقفية، وفتح لباب كبير وأنواع متعددة من صور المشاركة في إنشاء الأوقاف. بل إن بقاء هذه الأجزاء مشاعة قد يكون سبباً لحفظها من الإندراس والتلف مع مرور الزمن، لعناية باقي الشركاء بنصيبهم وسعيهم لتحقيق مصالح العين المشاعة، مما يعود بالنفع على الجميع، وذلك متفق تماماً مع مصلحة الوقف، كما يحقق المقصود منه من الاستمرار والدوام(57).

رابعاً: مسائل مهمة في وقف العقار:

المسألة الأولى: ما يدخل مع الأرض في الوقف:

إذا وقف أرضاً وعليها بناء أو فيها أشجار وثمار، فهل تدخل مع الأرض في الوقف فيكون الجميع وقفاً، أم تنفرد عن الأرض وتبقى على ملك صاحبها؟

ذهب الحنفية إلى أن البناء يدخل في وقف الأرض تبعاً، إذا كان هناك بناء من دار وغيرها.

أما الأشجار فهناك روايتان عند الحنفية:

الأولى: تدخل الأشجار في وقف الأرض كما تدخل في البيع، ويدخل الشرب والطريق استحساناً؛ لأن الأرض إنما توقف للاستغلال، وهو لا يتسنى إلا باستخدام الماء والطريق؛ ولذا فيدخلان في الوقف قياساً على الإجارة.

لكن لو وقف الأرض مقبرةً فلا تدخل الأبنية والأشجار، وتكون له ولورثته من بعده؛ لأنها ليست من لوازم الانتفاع بالأرض عند ذلك لدفن الموتى.

أما الثمار: فلا تدخل الثمار القائمة وقت الوقف؛ سواء كانت مما تؤكل أو لا، كالورود والرياحين.

ولو وقف أرضه بجميع حقوقها وكل ما فيها لا يدخل الثمر أيضاً في الوقف “في القياس”، لكن “في الاستحسان” يلزم التصدق بالثمار على الفقراء على وجه النذر لا على وجه الوقف، هذا عن الثمار القائمة على الشجر يوم الوقف، أما ما يُستجد من ثمار بعده فيُصرف في وجوه الوقف؛ لأنه غلة الموقوف.

الثانية: دخول البناء والغراس في الأرض الموقوفة وإليه ذهب ابن حزم الظاهري.

المسألة الثانية: وقف البناء دون الأرض:

ذهب الحنفية إلى أن وقف البناء دون الأرض لا يجوز، فلو بنى على أرضه بناءً ثم وقف البناء دون الأرض لم يصح وقفه؛ لأن الأصل في الوقف العقار؛ إذ هو الذي يتأبد، أما البناء فهو تبع له، وهو من المنقول الذي لم يرِد فيه أثر أو تعامل، فيبقى على أصل القياس من المنع، هذا في الصحيح من مذهبهم.

وقيل: يجوز لأنه ورد أن أبا حنيفة أجاز وقف البناء دون الأرض، وهو الصحيح(58).

المسألة الثالثة: هل في الوقف شفعة: لو كان لرجلين عقار بعضه وقف وبعضه طلق فبيع الطلق فهل فيه شفعة؟

قيل: لا شفعة لصاحب الوقف لأن ملكه في الوقف غير تام فلا يستفيد به ملكاً تاماً.

وقيل: له الشفعة.

وقيل: ينبني على ملك الواقف فإن قلنا هو مملوك للواقف فلصاحبه الشفعة، وإلا فلا.

والقول الراجح: أن له الشفعة أي للشريك لأن العلة الثابتة فيما إذا كان الملك طلقاً هي العلة الثابتة فيما إذا كان وقفاً، بل العلة فيما إذا كان وقفاً أوضح، لأن هذا الوقف لا يمكن أن يتخلص منه الموقوف عليه.

وهل يكون النصيب المأخوذ بالشفعة تبعاً للموقوف فيكون وقفاً أم طلقاً مملوكاً للموقوف عليه، الثاني هو الصحيح، إلا إذا نواه وقفاً(59).

المسألة الرابعة: هل في العقار الموقوف زكاة؟

أما في عينه فلا، وأما غلته فإن وقف على جهة عامة فلا زكاة فيه، وإن وقف على معين يملك وملك الواحد منهم نصاباً ففيه الزكاة؛ لأن من شروط الزكاة خلوص ملكية المزكي التامة لما يزكيه، والموقوف عليه ليس كذلك(60).

المسألة الخامسة: هل قبض العقار شرطٌ لصحة الوقف، وكيف يكون القبض فيه؟

في هذه المسألة لأهل العلم قولان كما تقدم، والذين شرطوا القبض قاسوه على الهبة والوصية وقالوا: هو تبرع بمال لم يخرجه عن المالية فلم يلزم بمجرده كالهبة والوصية.

والجمهور على قدم اشتراطه واستدلوا بقصة عمر قال الطحاوي: “ولما لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لعمر إخراجها عن يده دل على جوازه غير مقبوض” ا.هـ.

وأجابوا عن قياس الوقف على الهبة بأن الهبة تمليك للأصل والمنفعة والوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة فهو بالعتق أشبه فإلحاقه به أولى(61).

وأما قبض العقار فيحصل بالتخلية بين المنتفع به وبين العقار؛ لأن قبض كل شيء بحسبه، فالمنقول يقبض بالنقل والحيازة، والعقار يقبض بالتخلية.

المسألة السادسة: إذا وقف العقار على جهتين:

إذا وقف العقار على جهتين “على ولدي مثلاً والمساكين” نصفين أو أثلاثاً، جاز لأنه إذا جاز المفرد جاز المجموع، وإن قال: بينهما وسكت، فنصفين، لأن الأصل في البينية التساوي(62).

المسألة السابعة: وقف حق الارتفاق:

قال الشافعية والحنابلة: يجوز وقف علو الدار دون سفلها، وسفلها دون علوها؛ لأنهما عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما دون الآخر، ولأنه يصح بيع العلو أو السفل، ولأنه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له حق الاستقرار والتصرف، فجاز كالبيع(63).

المسألة الثامنة: التصرف في العقار الموقوف:

التصرف في العقار الموقوف بإبداله أو نقله أو بيعه إذا تعطلت مصالحه أو كانت المصلحة الراجحة في أحد هذه التصرفات:

الصحيح الجواز، قال في عمدة الفقه: “ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه بالكلية، فيباع ويشترى به ما يقوم مقامه، والفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع واشتري به ما يصلح للجهاد، والمسجد إذا لم ينتفع به في مكانه بيع ونقل إلى مكان ينتفع به”(64).

واختلف أهل العلم؛ هل تجوز المناقلة به للمصلحة والمنفعة؛ بمعنى: أن ينقله لما هو أصلح وأنفع؟

من أهل العلم: من أجاز ذلك.

ومنهم: من منع ذلك، فمن منع ذلك قال: إن حديث عمر رضي الله عنه يقول: “لا يباع”، وليس فيه استثناء؛ ولأننا لو أجزنا المناقلة للمصلحة لحل في ذلك تلاعب من ناظري الأوقاف؛ إذْ كل واحد يتراءى له: أن المصلحة في نقله ينقله، فتمنع المناقلة سدّاً للباب؛ كما فعل مالك رحمه الله حينما استأذنه الرشيد؛ الخليفة العباسي المعروف، استأذنه أن يهدم الكعبة، ويردَّها على قواعد إبراهيم، فقال له: لا تفعل، لا تجعل بيت الله لعبة للملوك، كلما جاء ملك من الملوك قال: أغيِّر فيه، مع أن المصلحة فيما يبدو: أن يعاد إلى قواعد إبراهيم.

أما من أجاز المناقلة للمصلحة فاستدلوا: بأدلة عامة، وأدلة خاصة تصح أن يقاس عليها.

أما الأدلة العامة، فقالوا: إن الشارع ينظر دائماً إلى المصلحة، فما كان أصلح فإن الشارع لا يمنع منه؛ لأن أصل الشريعة كلها مبني على تحصيل المصالح، وتقليل المفاسد، فإذا كانت المصلحة متعينة فهو داخل في الإطار العام للشريعة.

أما الدليل الخاص؛ فهو: ما ثبت في الصحيح؛ في قصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال: “صلِّ هاهنا”، فأعاد عليه، فقال: “صلِّ هاهنا”، فأعاد عليه الثالثة، فقال له: “شأنك إذاً”، وهذا لا شك أنه تغيير للنذر، لكنه تحويل له من مفضول إلى أفضل، قالوا: فإذا جاز تحويل النذر من المفضول إلى الأفضل فالوقف مثله؛ لأن الوقف: التزام من الإنسان بأن يصرف المال إلى هذه الجهة، فإذا جاز تحويل النذر إلى ما هو أفضل، فكذلك تحويل الوقف، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وجماعة من أهل العلم، وهو الصحيح، لكن يجب أن يقيد هذا: بمراجعة القضاء؛ أي: المحاكم الشرعية؛ لئلا يتلاعب ناظر الأوقاف، فإذا أقرت المحكمة هذا فلا حرج(65).

الخاتمة:

هذا ما يسر المولى الكريم جمعه، فإن كان صواباً فهو محض فضل ومنة من الكريم المنان، وإن تكن الأخرى – ولا بد – فهو من نفسي القاصرة المقصرة ومن الشيطان.

والمأمول من القارئ الكريم سدّ الخلل، وحمل الكلّ، والمغاضاة عن الهفوات إلا ما كان من نصحٍ يسديه، أو ملحظ يبديهن فأكون له من الشاكرين الداعين، وهو من التعاون على البر والتقوى.

أسأل الله عز وجل أن يبارك في هذا العمل، ولنا في حال أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل – عليهما الصلاة والسلام – الأسوة {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: من الآية127].

وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصدر: موقع المسلم.