شركة ثبات لتطوير وإدارة الأوقاف

الوقف ودوره في النهضة العلمية

 

بقلم: د‏.‏ علي جمعة‏

اتسمت الحضارة الإسلامية بخصائص عدة تفردت بها عن باقي الحضارات الإنسانية‏,‏ ورسم الطابع الخيري ركنا أساسيا لها‏,‏ فقد حث الإسلام علي التعاون علي فعل الخيرات‏,‏

 وفتح قنوات عدة لإنفاق المال في صلاح المجتمع وإعمار نفوس الخلائق, فحين يقدم المسلم جزءا من ماله علي سبيل التطوع فهو يتحرر بذلك من سلطان شهوة المال, وينفك اسره من قيود الفردية والأنانية, ليجسد التفاعل بين أبناء الأمة الإسلامية الذي ذكره رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال: تري المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكي عضوا تداعي له سائر جسده بالسهر والحمي( البخاري2238/5).
والوقف من هذه القنوات التي شرعها الإسلام لإنفاق المال في صالح الأعمال, وهو من الخصائص التي انفرد بها الإسلام في مجال العمل الخيري, ودعا المسلمين الي تطبيقها حرصا منه علي ديمومة اعمال البر والإحسان بهدف التقرب الي الله سبحانه وتعالي وتوثيقا للعلاقات بين أفراد المجتمع الواحد, ولذلك أجاز الشارع الحكيم الوقف علي الفقراء والأغنياء, والأقرباء والغرباء, والمسلمين وغير المسلمين, الذين يعيشون في بلاد الإسلام.
ويعد الوقف اصدق تعبير وأوضح صورة للصدقة الجارية التي لاتنقطع بعد موت الإنسان, والتي ذكرها رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله الا من ثلاثة الا من صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له.( مسلم1255/3).
وقد لعب الوقف الإسلامي دورا تاريخيا في دفع عجلة التنمية في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والرعاية الصحية, فقد انتشرت الاوقاف علي نطاق واسع في محيط العالم الإسلامي شرقا وغربا, حيث تباري المسلمون في إنشاء الأسبلة باعتبارها نوعا من الصدقة الجارية. ولم يتوقف المسلمون عند ذلك بل امتد الوقف الخيري الي عمارة الارض فأوقفوا علي المساجد والمدارس والمستشفيات, ثم تجاوز الوقف الإسلامي حاجات الناس الي حاجات الدواب والحيوان, فوقفوا اوقافا لها.
والناظر في تاريخ الحياة العلمية للمسلمين يعرف ان دعم النشاط العلمي قد قام علي نظام الوقف علي مدي قرون عدة في التاريخ الإسلامي, فإن المصادر التاريخية تؤكد العلاقة الوثيقة بينه وبين المساجد والمدارس التي قامت عليها النهضة العلمية, فلقد كان للأوقاف الفضل الأول خلال هذه الفترات في ازدهار الحركة العلمية في المساجد والمدارس الكبري وأدائها لوظيفتها في تخريج اجيال العلماء النابغين وتطوير التفكير العلمي في المجتمع المسلم, هذا النشاط والتفكير الذي ظل بقية باقية دفعت بالحركة العلمية واخرجت العلماء المعاصرين في المجالات المختلفة.
وكان اكبر مثال لذلك الجامع الأزهر, فقد كان له نصيب مقدر من أوقاف مصر ينفق منها علي أبنيته وفقهائه وطلابه والفقراء الواردين إليه, فأوقفت الكثير من اراضي مصر لخدمته وها هو ذا شامخ باق يؤدي وظيفة بإخلاص وصدق ونفع للعالم الإسلامي حتي يومنا هذا.
وعلي الدرب نفسه كانت الأوقاف هي الشريان الرئيسي لكل النشاطات العلمية في مصر, فقد اوقف المسلمون علي المدارس والموسسات التعليمية, وكفل الوقف بناء هذه المؤسسات وصيانتها وكفل كل من درس فيها, بل كفل الطلبة من جميع الوجوه حتي في توفير مساكن لهم ملحقة بالمدارس تساعد الطلبة علي التفرغ لدراستهم, حتي اشتهرت بعض المساكن الدراسية بخدمات راقية, يقول المقريزي في الخطط(371/2) عن المدرسة الصاحبية إنها كانت من اجل مدارس الدنيا واعظم مدرسة بمصر, يتنافس الناس من طلبة العلم في النزول بها, ويتشاحنون للسكن في بيوتها حتي يصير البيت الواحد من بيوتها يسكن فيه الاثنان من طلبة العلم والثلاثة, وليس هذا فقط بل خصص للطلبة في هذه المدارس من اموال الوقف مبالغ مالية اجريت عليهم شهريا.
وإذا كان السابقون قد ادوا ما عليهم تجاه تقدم هذا المجتمع وازدهاره بما أوقفوه علي العلم والعلماء وما أقاموه من مؤسسات علمية من مساجد ومدارس, حتي استلمنا راية الحركة العلمية بعدهم, مع ما شابها من آثار الاستعمار الذي سعي للقضاء علي هذه البقية, إذا كانوا قد فعلوا ذلك فإنه قد جاء دورنا لنبقي هذا البصيص من الضوء ونزيد في زيت السراج وننشر نور النهضة العلمية العربية والإسلامية في ربوع العالم, وقد قيض الله لنا مشروعا عظيما جعله الله املا لنا في المرحلة القادمة, مشروعا قوميا يعد مفتاحا للنهضة العلمية في القطر المصري والعربي والإسلامي, وهو مشروع زويل للعلوم والتكنولوجيا, فوجب علينا ان نستعين بما رزقنا الله به من مال وفق نظام الوقف الذي شرعه الله لنا سبيلا لأمثال هذه المشروعات, حتي نقوم بما خلقنا لاجله, وهو عبادة الله تعالي, واعمار الارض, وتزكية النفس.

المصدر / وقفنا